مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

أما قوله : { سبحانك } فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم ، وفي قوله : { سبحانك } وجوه . أحدها : أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه . وثانيها : أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون المؤمنون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده . وثالثها : قصدوا به تنزيهه عن الأنداد ، سواء كان وثنا أو نبيا أو ملكا . ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئا عن الجرم ، بل إنه إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم .

أما قوله : { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : القراءة المعروفة { أن نتخذ } بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله ، قال الزجاج أخطأ من قرأ { أن نتخذ } بضم النون لأن ( من ) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولا أولا ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد وليا ، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي ، قال صاحب الكشاف اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ وليا ، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانا وليا ، قال الله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو { من أولياء } ، والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي ، والثانية من المتعدي إلى مفعولين ، فالأول ما بني له الفعل ، والثاني { من أولياء } من للتبعيض ، أي لا نتخذ بعضا أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام .

المسألة الثانية : ذكروا في تفسير هذه الآية وجوها . أولها : وهو الأصح الأقوى ، أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك . وثانيها : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار ، قال تعالى : { فقاتلوا أولياء الشيطان } يريد الكفرة ، وقال : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } عن أبي مسلم . وثالثها : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه ، والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ورابعها : قالت الملائكة إنهم عبيدك ، فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك وليا ولا حبيبا ، فضلا عن أن يتخذ عبد عبدا آخر إلها لنفسه . وخامسها : أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل ، فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء ، قلنا : المراد إنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا . وسادسها : أن هذا قول الأصنام ، وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين ، فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين .

المسألة الثالثة : الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله ، فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع .

أما قوله تعالى : { ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران ، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا ، فإنه لولا عنادهم الظاهر ، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى . وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله : { إن هي إلا فتنتك } وذلك لأن المجيب قال : إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات ، واستغراقه فيها صار صادا له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك ، فإن هي إلا فتنتك .

المسألة الثانية : الذكر ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع ، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة .

المسألة الثالثة : قال أبو عبيدة : يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور ، وكذلك الأنثى ، ومعناه هالك ، وقد يقال رجل بائر وقوم بور ، وهو مثل هائر وهور ، والبوار الهلاك ، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر ، ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك ، فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه ، لو صار مؤمنا لصار الخبر الصدق كذبا ، ولصار العلم جهلا ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة ، ولصار اعتقاد الملائكة جهلا . وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقيا ، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيدا ، ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها ، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغا يوجب البوار ، فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب ، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر ، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقيا ، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا .