مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِيعُونَ صَرۡفٗا وَلَا نَصۡرٗاۚ وَمَن يَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابٗا كَبِيرٗا} (19)

أما قوله تعالى : { فقد كذبوكم بما تقولون } فاعلم أنه قرئ { يقولون } بالياء والتاء ، فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة ، أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة ، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت ، فالمعنى أنهم كذبوكم بقولكم { سبحانك } ، ومثاله قولك كتبت بالقلم .

أما قوله : { فما تستطيعون صرفا ولا نصرا } فاعلم أنه قرئ { يستطيعون } بالياء والتاء أيضا ، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم ، وقيل الصرف التوبة ، وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف ، أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .

أما قوله تعالى : { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرئ { يذقه } بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير الظلم .

المسألة الثانية : أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر ، فقالوا ثبت أن ( من ) للعموم في معرض الشرط ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله : { إن الشرك لظلم عظيم } والفاسق ظالم لقوله : { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفي عنه ، بل يعذب لا محالة . والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة ( من ) في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعا أم ظاهرا ؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم ، مع أن المراد هو الأكثر ، أو لأن المراد أقوام معينون ، والدليل عليه قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ثم إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله : { الذين كفروا } وإن كان يفيد العموم ، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون ، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر ، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو . سلمنا دلالته قطعا ، ولكنا أجمعنا على أن قوله : { ومن يظلم منكم } مشروط بأن لا يوجد ما يزيله ، وعند هذا نقول هذا مسلم ، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله ؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله ، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ، ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقا للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل ، فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة ، نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { ومن يظلم منكم } إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم ؟