مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

قوله تعالى : { إن جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون }

لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال : { إنا جعلنا } وفيه وجوه أحدها : أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } والثاني : أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد ، فرآه ساجدا فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه . والثالث : وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام ؟ نقول الوجه الأول : له مناسبة وهي أن قوله تعالى : { فهم لا يؤمنون } [ يس : 7 ] يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم }

أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون ، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال : { لقد حق القول على أكثرهم } وذكرنا أن المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلا والتفسير هو الوجه الثالث .

المسألة الثانية : قوله : { فهي } راجعة إلى ماذا ؟ نقول فيها وجهان أحدهما : أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة في الغل إلى عنقه وثانيهما : وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال ، معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه .

المسألة الثالثة : كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سدا ومن خلفه سدا فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعا كالمغلول الذي يجعل ممنوعا من إبصار الطريق الحسي ، ويحتمل وجها آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق ، ويصدق هذا قوله : { مقمحون } فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهم مقمحون لا يخضعون الرقاب لأمر الله .

وعلى هذا فقوله تعالى : { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يكون متمما لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سدا } إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان . إما باتباع الرسول أولا فتلوح له الحقائق ثانيا وإما بظهور الأمور أولا واتباع الرسول ثانيا ، ولا يتبعون الرسول أولا لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانيا ، ولا يظهر لهم الحق أولا لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانيا وفيه وجه آخر : وهو أن يقال المانع ، إما أن يكون في النفس ، وإما أن يكون خارجا عنها ، ولهم المانعان جميعا من الإيمان ، أما في النفس فالغل ، وأما من الخارج فالسد ، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه ، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله : { إنا جعلنا في أعناقهم } { وجعلنا من بين أيديهم } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق .