الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

قوله : { فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ } : في هذا الضميرِ وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ - أنه عائدٌ على الأَغْلال ، لأنها هي المُحَدَّثُ عنها ، ومعنى هذا الترتيبِ بالفاءِ : أن الغِلَّ لغِلَظِه وعَرْضِه يَصِلُ إلى الذَّقَنِ لأنه يَلْبَسُ العُنُقَ جميعَه . الثاني : أن الضميرَ يعودُ على الأَيدي ؛ لأنَّ الغِلَّ لا يكونُ إلاَّ في العُنُقِ واليدين ، ولذلك سُمِّي جامِعَةً . ودَلَّ على الأيدي هذه الملازَمَةُ المفهومةُ من هذه الآلةِ أعني الغِلَّ . وإليه ذهب الطبري . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : " جعل الإِقْماحَ نتيجةَ قولِه : { فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التَّسَبُّبِ في الإِقماحِ ظاهراً . على أنَّ هذا الإِضمارَ فيه ضَرْبٌ من التعسُّفِ وتَرْكِ الظاهر " . /

وللناس في هذا الكلامِ قولان ، أحدهما : أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ . والثاني : أنه استعارةٌ . وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين . وقال الزمخشري : " مَثَّل تصميمَهم على الكفر ، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه ، ولا يُطَأْطِئُون رؤوسَهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله " . وقال غيره : " هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه " . قال ابن عطية : " وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين " انتهى . وتقدَّم تفسيرُ الأذقان .

قوله : " فهم مُقْمَحُوْن " هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ ، فترتفعُ رؤوسُهم . والإِقْماح : رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع ، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ : إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحاً وقِماحاً بكسرِ القافِ وضمِّها . وأَقْمَحْتُه أنا إقماحاً والجمع قِماح وأنشد :

3775 ونحن على جوانبِها قُعودٌ *** نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ

يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ . قالَ الزجاج : " قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح ؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رؤوسَها لشدَّةِ البردِ " . وأنشد أبو زيد للهذلي :

3776 فَتَىً ما ابنُ الأَغَرِّ إذا شَتَوْنا *** وحُبَّ الزادُ في شَهْرَيْ قُماحِ

كذا رَواه بضمِّ القافِ ، وابن السكيت بكسرِها . وهما لغتان في المصدرِ كما تقدَّمَ . وقال الليث : القُموح : رَفْعُ البعيرِ رَأْسَه إذا شَرِبَ الماءَ الكريهَ ثم يعودُ . وقال أبو عبيدة : " إذا رَفَعَ رأسَه عن الحوض ، ولم يشرَبْ " والمشهورُ أنه رَفْعُ الرأسِ إلى السماء كما تقدَّمَ تحريرُه . وقال الحسن : " القامِحُ : الطامِحُ ببصرِه إلى مَوْضِعِ قَدَمِه " وهذا يَنْبُو عنه اللفظُ والمعنى . وزاد بعضُهم مَع رَفْعِ الرأس غَضَّ البصرِ مُسْتَدِلاًّ بالبيتِ المتقدم : . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِل القِماحِ

وزاد مجاهدٌ مع ذلك وَضْعَ اليدِ على الفم . وسأل الناسُ أميرَ المؤمنين علياً كرَّم اللَّهُ وجهه عن هذه الآيةِ فجعل يديه تحت لِحْيَيْه ورَفَعَ رأسَه ولعَمْري إنَّ هذه الكيفيةَ تُرَجِّح قولَ الطبريِّ في عَوْدِ " فهي " على الأيدي .