فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

وجملة { إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا } تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم { فَهِىَ } أي الأغلال منتهية { إِلَى الأذقان } ، فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ، ولا يتمكنون من عطفها ، وهو معنى قوله { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم . قال الفراء والزجاج : المقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، ومعنى الإقماح : رفع الرأس ، وغضّ البصر ، يقال : أقمح البعير رأسه ، وقمح : إذا رفع رأسه ، ولم يشرب الماء .

قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ، ورؤوسهم صعداء ، فهم مرفوعوا الرؤوس برفع الأغلال إياها . وقال قتادة : معنى مقمحون : مغلولون ، والأوّل أولى ، ومنه قول الشاعر :

ونحن على جوانبها قعود *** نغضّ الطرف كالإبل القماح

قال الزجاج : قيل للكانونين : شهرا قماح ؛ لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدّة البرد ، وأنشد قول أبي زيد الهذلي :

فتى ، ما ابن الأغرّ إذا شتونا *** وحب الزاد في شهري قماح

قال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ، ولم يشرب . وقال أبو عبيدة أيضاً : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول ، كما يقال فلان حمار : أي لا يبصر الهدى ، وكما قال الشاعر :

* لهم عن الرشد أغلال وأقياد *

وقال الفراء : هذا ضرب مثل : أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] . وبه قال الضحاك . وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : { إِذِ الأغلال في أعناقهم } [ غافر : 71 ] وقرأ ابن عباس " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً " قال الزجاج : أي في أيديهم . قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ، ولا يقرأ بما خالف المصحف . قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ، التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم ، وفي أياديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، فلفظ " هي " كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا . ونظيره : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وسرابيل تقيكم البرد ، لأن ما وقى من الحرّ ، وقى من البرد ؛ لأن الغلّ إذا كان في العنق ، فلابدّ أن يكون في اليد ، ولاسيما ، وقد قال الله { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ، فقد علم أنه يراد به الأيدي ، فهم مقمحون ، أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ؛ لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه . وروي عن ابن عباس : أنه قرأ " إنا جعلنا في أيديهم أغلالا " ً ، وعن ابن مسعود : أنه قرأ " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً " كما روي سابقاً من قراءة ابن عباس .

/خ12