تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

الآية 8 وقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مُقمَحون } يحتمل أن يخرّج على التمثيل ، ويُحتمل على التحقيق .

فإن كان على التمثيل فهو وصفه إياهم بالبخل والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك } [ الإسراء : 29 ] نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد ، لا يقدر على الإنفاق ، ليس على إرادة غلّ اليد حقيقة ، ولكن على ترك الإنفاق . فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم .

وإن كان على حقيقة الغُلّ { في الأعناق[ {[17378]} فيحتمل ما قاله أهل التأويل : إن أبا جهل ، لعنه الله ، حلف لئن رأى محمدا ليدمغنّه ، فأتاه أبو جهل ، وهو{[17379]} يصلي ، ومعه حجر ، ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم ، فيبست يده إلى عنقه ، والتزق الحجر بيده . فلما رجع إلى أصحابه ، قال رجل : أنا أقلته ، فأخذ الحجر ، فلما دنا منه ، طمس الله بصره ، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وسمع قراءته ، فرجع إلى أصحابه ، فلم يُبصرهم حتى نادوه .

الآية 9 فذلك قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا } ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة إن كان على التحقيق ، وهو كقوله : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون } { في الحميم ثم في النار يُسجَرون } [ غافر : 71 و72 ] وقوله : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلال } [ الزمر : 16 ] ونحو ذلك مما ذكر .

فيكون قوله : { وجعلنا } سنجعل ، وذلك{[17378]} جائز في الكلام كقوله لعيسى حين{[17379]} قال : { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } [ المائدة : 116 ] أي يقول له يوم القيامة ، فهو بعيد غير مقول .

فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } { وجعلنا من بين أيديهم سدّا } [ الآيتان : 8 و9 ] إلى آخر ما ذكر في الآية{[3]} ، أي سنجعل لهم في الآخرة ذلك ، ويحتمل أن يكون على{[4]} ذلك لهم في الدنيا{[5]} من قصدهم برسول الله ما قصدوا حتى لم يجدوا السبيل إليه لا من بين يديه ولا من خلفه ولا من جهة من الجهات .

[ ويحتمل ]{[6]} أن يكون قوله : { وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } على التمثيل ، أي جعلنا بينهم وبين الحق من أمام ومن خلف ، فأغشينا أبصارهم ، فلا يبصرون الحق أبدا . وذلك في القرآن كثير ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان } إن الغُلّ يكون طرفه في العُنق ، وطرفه الآخر في اليد ، فتكون اليد اليمنى مغلولة إلى العنق . وعلى ذلك ذُكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ إنا جعلنا في أيمانهم{[7]} أغلالا . وفي بعض الحروف : في أيديهم{[8]} أغلالا .

وقوله تعالى : { فهم مُقمحَون } قال بعضهم : رافعو رؤوسهم إلى السماء ، لأنه كذلك يكون إذا غُلّ عنق المرء إلى الذقن لا يستطيع أن ينظر في الأرض . ولذلك قيل للإبل إذا شربت الماء اقحمت ، أي رفعت رأسها .

وقال بعضهم : الإقماح ، هو غض البصر .

وقال أبو عوسجة والقتبيّ : المُقمَح الذي يرفع رأسه ، ويغضّ بصره ، ويقال : غاض طرفه بعد رفع رأسه ، { فهم مقمحون } جُمعت أيديهم إلى أعناقهم .

وقوله تعالى : { تنزيل العزيز الرحيم } قد قرئ{[9]} بالرفع والنصب والخفض جميعا [ فمن قرأها بالرفع فهو على الابتداء ]{[10]} ومن قرأها بالخفض فهو على النّعت كقوله : { والقرآن الحكيم } تنزيل العزيز الرحيم . ومن قرأ بالنصب فعلى القطع ، لأن الكلام قد تمّ دونه .


[3]:- من ط ع، الواو ساقطة من الأصل.
[4]:- من ط ع، في الأصل: الشكر.
[5]:- من ط ع، في الأصل: ذا.
[6]:- نفسه.
[7]:- لم تدرج مقدمة المصنف في ط م.
[8]:- في ط ع: الحق.
[9]:- في ط م: ليكون.
[10]:-في ط ع: نقصانا.
[17378]:في الأصل وم: والأعناق.
[17379]:الواو ساقطة من الأصل وم.