السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

ونزل في أبي جهل وصاحبه : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } أي : بأن تضم إليها الأيدي ؛ لأن الغل يجمع اليد إلى العنق ، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده إلى عنقه ، فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : ما رأيته ولقد سمعت كلاماً وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال تعالى { لقد حق القول على أكثرهم } وتقدم أن المراد به البرهان وقال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ، ومنع من إرسال الحجر وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً ، وقال أهل المعاني : هذا على طريق المثل ولم يكن هناك غل ، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع ، فجعل الأغلال مثلاً لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أيديهم .

وقال الفراء : معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } ( الإسراء : 29 ) معناه : ولا تمسكها عن النفقة ، ومناسبة هذا لما تقدم أن قوله تعالى { فهم لا يؤمنون } يدخل فيه أنهم لا يصلون لقوله تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) أي : صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يصلون ولا يزكون ، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى { فهي إلى الأذقان } على وجهين : أشهرهما : أنه عائد على الأغلال ؛ لأنها هي المحدث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغل لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن ؛ لأنه يلبس العنق جميعه ، قال الزمخشري : والمعنى أنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه .

ثانيهما : أن الضمير يعود إلى الأيدي ، وإليه ذهب الطبري وعليه جرى الجلال المحلي ؛ لأن الغل لا يكون إلا في العنق واليدين ، ودل على الأيدي وإن لم تذكر الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل . وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين { فهم مقمحون } أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤون رؤوسهم له ، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء ، وإما لكراهة طعمه .