الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون «

م مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين : في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله .

فإن قلت : ما معنى قوله : » فهى إلى الأذقان « ؟ قلت : معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن . فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا . والمقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره . يقال : قمح البعير فهو قامح : إذا روي فرفع رأسه ومنه شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما وهما الكانونان . ومنه : اقتمحت السويق .

فإن قلت : فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق - وبذلك يسمى جامعة - كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي ؟ قلت : الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله : » فهم مقمحون « ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله : » فهى إلى الأذقان « ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج .