فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً } تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم .

{ فَهِيَ } أي الأغلال منتهية { إِلَى الأَذْقَانِ } جمع ذقن . وهو أسفل اللحيين لأن الغل يجمع اليد إلى العنق فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ، ولا يتمكنون من عطفها لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن ، حلقة فيها رأس العمود ، خارجا من الحلقة إلى الذقن ، فلا يخليه يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا وهو معنى قوله :

{ فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم ، قال الفراء والزجاج : المقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح : رفع الرأس وغض البصر ، يقال : أقمح البعير رأسه وقمح : إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء .

قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها ، وقال قتادة : معنى مقمحون مغلولون والأول أولى .

وقال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، وعنه أيضا : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول ، كما يقال : فلان حمار أي لا يبصر الهدى ، قال الفراء : هذا ضرب مثل أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وبه قال الضحاك .

وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم } وقرأ ابن عباس : { إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا } قال الزجاج أي في أيديهم ، قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ، ولا يقرأ بما خالف المصحف ، قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة أي : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان .

فلفظ { هي } كناية عن الأيدي لا عن الأعناق والعرب تحذف مثل هذا ونظير { سرابيل تقيكم الحر } أي وسرابيل تقيكم البرد لأن ما وقى من الحر وقى من البرد لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله : { فهي إلى الأذقان } فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون ، أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه .

وروي عن ابن عباس أنه قرأ { إنا جعلنا في أيديهم أغلالا } وعن ابن مسعود أنه قرأ { إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا } كما روي سابقا عن ابن عباس ، وعنه قال : الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن فهم مقمحون كما تقمح الدابة باللجام{[1389]} .


[1389]:زاد المسير 7/6.