البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

قمح البعير رأسه : رفعه أثر شرب الماء ، ويأتي الكلام فيه مستوفي .

والظاهر أن قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية هو حقيقة لا استعارة .

لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار .

والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل .

والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال ، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها .

قال ابن عطية : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذقن مجتمع اللحيين ، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الأقناع في الهيئة .

وقال الزمخشري : الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن ، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله ، فلا يزال مقمحاً . انتهى .

وقال الفراء : القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه .

وقال الزجاج نحوه قال : يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو .

وقال أبو عبيدة : قمح قموحاً : رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها :

ونحن على جوانبها قعود *** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود .

وقال الزجاج : للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده ، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي :

فتى ما ابن الأعز إذا شتونا *** وحب الزاد في شهري قماح

رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها ، وهما لغتان .

وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه .

وقال الحسن : القامح : الطافح ببصره إلى موضع قدمه .

وقال مجاهد : الرافع الرأس ، الواضح يده على فيه .

وقال الطبري : الضمير في فهي عائد على الأيدي ، وإن لم يتقدم لها ذكر ، لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق .

وأرى علي ، كرم الله وجهه ، الناس الأقماح ، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه .

وقال الزمخشري : جعل الأقماح نتيجة قوله : { فهي إلى الأذقان } .

ولو كان الضمير للأيدي ، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً .

على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج . انتهى .