مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلۡحَوَايَآ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖۚ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} (146)

ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة ، وهي نوعان : الأول : أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر . وفيه مباحث :

البحث الأول : قال الواحدي : في الظفر لغات ظفر بضم الفاء ، وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء ، وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء ، وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال .

البحث الثاني : قال الواحدي : اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس : أنه الإبل فقط وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنه الإبل والنعامة ، وهو قول مجاهد . وقال عبد الله بن مسلم : إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب . ثم قال : { كذلك } قال المفسرون وقال : وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة . وأقول : أما حمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين : الأول : أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا . والثاني : أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر ، وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما .

وإذا ثبت هذا فنقول : وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد ، وعلى هذا التقدير : يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ، ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس .

إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين : الأول : أن قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا } كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة . والثاني : أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله ، { وعلى الذين هادوا حرمنا } فائدة فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود ، فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين ، فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين ، وعند هذا نقول : ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى ، فوجب أن لا يكون مقبولا ، وعلى هذا التقدير : يقوى قول مالك في هذه المسألة .

النوع الثاني : من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة ، قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم ، ثم في الآية قولان : الأول : إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع : أولها : قوله : { إلا ما حملت ظهورهما } قال ابن عباس : إلا ما علق بالظهر من الشحم ، فإني لم أحرمه وقال قتادة : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها ، وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير : فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم ، وبهذا التقدير : لو حلف لا يأكل الشحم ، وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين .

والاستثناء الثاني : قوله تعالى : { أو الحوايا } قال الواحدي : وهي المباعر والمصارين ، واحدتها حاوية وحوية . قال ابن الأعرابي : هي الحوية أو الحاوية ، وهي الدوارة التي في بطن الشاة . وقال ابن السكيت : يقال حاوية وحوايا ، مثل رواية وروايا .

إذا عرفت هذا : فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة .

والاستثناء الثالث : قوله : { وما اختلط بعظم } قالوا : إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين . وقال ابن جريج : كل شحم في القائم والجنب والرأس ، وفي العينين والأذنيين يقول : إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم ، وعلى هذا التقدير : فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية .

القول الثاني : في الآية أن قوله : { أو الحوايا } غير معطوف على المستثنى ، بل على المستثنى منه والتقدير : حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا : ودخلت كلمة «أو » كدخولها في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى ، فاعص هذا واعص هذا ، فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا .

ثم قال تعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } والمعنى : أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم ، وهو قتلهم الأنبياء ، وأخذهم الربا ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } .

ثم قال تعالى : { وإنا لصادقون } أي في الإخبار عن بغيهم وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم . قال القاضي : نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم ، لأن التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم .

فالجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب ، ويمكن أيضا أن يكون للجرم المتقدم ، وكل واحد منهما غير مستبعد .