قوله : " وَعَلى الَّذين هَادُوا " متعلَّق ب " حَرَّمْنَا " وقد يُفيد الاخْتِصاص عند بعضهم ؛ كالزَّمْخَشَري{[15463]} والرَّازي{[15464]} ، وقد صرّح به الرَّازي هنا ، أعني : تَقْديم المَعْمُول على عَامِلهِ .
أعلاها : " ظُفُر " بضم الظَّاءِ والفَاءِ ، وهي قرءاة العامَّة{[15465]} .
و " ظُفْر " بسكون العين ، وهي تَخْفِيف لمَضْمُومِها ، وبها قرأ الحسن في رواية وأبيُّ بن كَعْب{[15466]} والأعْرَج .
و " ظِفِر " : بكسر الظَّاء والفاء ، ونسبها الوَاحِديّ قراءة{[15467]} لأبي السَّمال .
و " ظِفْر " : بكسر الظَّاء وسكون الفَاء ، وهي تَخْفيفٌ لمكْسُورها ، ونسبها النَّاس للحسن أيضاً قراءة{[15468]} .
واللغة الخامسة : " أظْفُور " ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْنَا ؛ وأنشدوا على ذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
مَا بَيْنَ لُقْمِتِهَا الأولَى إذَا انْحَدَرَتْ *** وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها قِيدُ أظْفُورِ{[15469]}
وجمع الثُّلاثي : أظْفَار ، وجمع أظْفُور : أظافير وهو القياس وأظافِر من غير مَدّ ، وليس بِقِياس ؛ وهذا كقوله : [ الزجر ]
العَيْنيْنِ والعَوَاوِر{[15470]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك في قوله : { مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] .
قال الواحديُّ اختلفوا في ذِي الظُّفُر : فروى عطاء عن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- : أنه الإبل فقط{[15471]} ، ورُوي عنه أيضاً : أنَّه الإبل والنَّعَامة ؛ وهو قول مُجَاهد{[15472]} .
قوال عبْد اللَّهِ بْنُ مُسْلِم{[15473]} : " إنَّه كلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّير ، وكلُّ حافرٍ من الدّواب " .
وقيل : هو كلّ ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطّير مثل البَعِير والنَّعامة والإوَزّ والبَطّ ؛ ثم قال : كذلك قال المفسِّرون .
وقال ابن الخطيب{[15474]} : " وَسُمِّي الحافر ظفراً على الاسْتِعاَرِة " ، قال ابْنُ الخطيب{[15475]} أمَّا حمل الظُّفُر على الحَافِر فِبَعِيدٌ من وَجْهَيْن :
الأول : أن الحَافِر لا يُسَمَّى ظُفُراً .
والثاني : لو كان الأمْر كذلك ، لوجب أن يُقَال : إنه - تبارك وتعالى- حَرَّم عليهم كُلَّ حَيَوان له حَافِر ، وذلك بَاطِلٌ ؛ لأن الآية تدلُّ على أنَّ الغَنَم والبَقَر مُبَاحَان لَهُم مع حُصُول الحافِر لَهُم .
وإذا ثَبَتَ هذا ، فَنَقُول : وجب حَمْل الظُّفُر على المَخَالِبِ والبَراثِنِ ؛ لأن المَخالِب آلات الجَوارِح في الاصطِيَاد ، والبراثِن آلات السِّبَاع في الاصْطِيَاد ، وعلى هذا التقدير يدخل أنواع الكِلاب والسِّباع والسَّنَانِير ، ويدخل فيه الطُّيُور التي تُصْطَاد ؛ لأن هذه الصِّفَة تَعُمُّهُم .
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : قوله تعالى- : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } تخصيصُ هذه الحُرْمَةِ بهم من وجهين :
الأول : أن قوله : " وعلى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا " كذا وكذا يفيد الحَصْر في اللُّغَة .
والثاني : أنه لَوْ كانت هذه الحُرْمَة ثابتَة في حَقِّ الكُلِّ ، لم يَبْق لِقَوْله : " وعَلَى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا " فائدة ؛ فثبت أنَّ تَحْريم السِّبَاع ، وذَوِي المخلَب من الطَّير مختص باليهُود ، فوجب ألا تكُون مُحَرَّمة على المُسْلِمِين ، وعند هذا نَقُول : مَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام- حرَّم كل ذِي نابٍ من السِّباع ، وكل ذي مِخْلَب من الطَّيْر ضعيفٌ ؛ لأنه خبر واحدٌ على خلاف كتابِ اللَّه ، فلا يكون مَقْبُولاً ، وهذا يُقَوِّي قول مالِك في هذه المَسْألة .
قوله : " وَمنَ البَقَرِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَعْطُوف على " كُلِّ ذي " فتتعلَّق " مِنْ " ب " حَرَّمْنَا " الأولى لا الثانية ، وإنَّما جيء بالجُمْلَة الثانية مُفسِّرة لما أبْهم في " مِنْ " التَّبْعيضيَّة من المُحَرَّم ؛ فقال : " حَرَّمْنَا عَلَيْهم شُحُومَهُمَا " .
والثاني : أن يتعلَّق ب " حَرَّمْنَا " المُتَأخِّرة ، والتقدير : وحرَّمْنا على الذين هَادُوا من البَقَر والغَنَم شُحُومَهُمَا ، فلا يَجِب هنا تَقْديم المجرُور بها على الفِعْل ، بل يجوز تأخره على الفعل كما تقدّم ، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل ؛ فيقال : حَرَّمْنا عليهم شُحُوَمُهما من البَقَر والغَنَمِ ؛ لئلا يَعُود الضَّمِير على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبَة .
وقال أبو البقاء{[15476]} : " ولا يجوز أن يكُون " مِنْ البَقَرِ " متعلِّقاً ب " حَرَّمْنَا " الثانية " .
قال أبو حيَّان{[15477]} : " وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمير مانِعٌ من التعَلُّق ؛ إذ رُتْبَة المجرُور ب " مِن " التَّأخِير ، لكن عن ماذا ؟ أما عن الفعل فَمُسَلَّم ، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم " يعني : أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله : " مِنَ البَقَر " التأخير عن شُحُومَهُمَا ، فيصير التقدير : حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر ؛ فغير مُسَلَّم ، ثم قال أبو حيَّان : " وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول ، فليس بِمَمْنُوع ، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ : " ضربَ غُلامَ المرأة أبُوهَا " و " غُلامَ المرأة ضَرَبَ أبوها " ، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير ، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه ؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه ، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَة . فلا يبالي فيهما بتَقْدِيم أيَّهما شِئْت على الآخَر ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّماءِ نُجُومُهَا{[15478]}
فقدَّم الظَّرْف وجوباً ؛ لعود الضَّمير الذي اتَّصل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف " .
قال شهاب الدِّين{[15479]} : " لقائل أن يقُول : لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء ، إنما مَنَع لما ذكرت ، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه ، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيٍّ " .
والإضافة في قوله : " شُحُومَهُما " تُفِيد الدَّلالة على تأكيد التَّخْصيص والرَّبْط ، إذ لو أتى في الكلام : " مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم " لكان كافياً في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم ؛ هذا كلام أبي حيَّان ، وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري ؛ فإنه قال{[15480]} : " ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما " ؛ كقولك : " مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ " تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط .
قوله : " إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورهُمَا " " ما " مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم ، أي : إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر ، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتاً لِمَحْذُوف ، أي : إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا ؛ كذا قدَّره أبو حيان{[15481]} ، وفيه نظر ؛ لأنه قد نصَّ على أنَّه لا يوصف ب " ما " الموصولة وإن كان يوصف بالذي ، وقد ردّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير ، وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاٍ بشَيْءٍ محذوف ، أي : إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم ، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي ، فإنَّه لو أظْهَر كذا ، لكان إعرابُه حالاً .
وقوله : " ظُهُورهما " يحتمل أن يكُون من باب قوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] ، بالنسبة إلى ضَمِير [ البَقَر ] والغَنَم من غير نَظرٍ إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنَى ، ويحتمل أن يَكُون جَمَع " الظُّهُور " لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى ؛ فهو مثل : " قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان " فالتَّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتنِعَة .
قال ابن عبَّاس : " إلا ما عَلِق بالظَّهْر من الشحم ، فإنِّي لم أحرمهُ " {[15482]} وقال قتادة : " إلا ما عَلَق بالظَّهْرِ والجَنْبِ من دَاخِل بُطُونِها " {[15483]} .
قال ابن الخطيب{[15484]} : " وأقول : لَيْس على الظَّهْر شَحْمٌ إلا اللحم الأبْيَض السَّمين المُلْتَصِق باللّحْم الأحْمَر ، وعلى هذا التقدير فذلك اللحم السَّمين الملتَصِق يكون مُسَمَّى بالشَّحم وبهذا التقدير لو حَلَق ألاَّ يأكُل الشَّحْم ، وجَبَ أن يَحْنَث إذا أكل ذلك اللَّحْم السَّمين " .
قوله : " أو الحَوَايَا " في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه :
أحدها - وهو قول الكسائي - : أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفاً على " ظُهُورُهما " أي : وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَاياَ من الشَّحْم ، فإنه أيضاً غير مُحَرَّم ، وهذا هو الظّاهِر .
الثاني : أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقاً على " شُحُومَهُمَا " أي : حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضاً ، أو ما اخْتَلَط بعَظْم ، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين ، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قليلَةٌ ، وتكون " أو " فيه كالتي في قوله – تعالى - : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] يُراد بها : نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد ؛ كما تقول : " هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَمْوا فاعْصِ هذا أو هذا " فالمعنى : حرم عليهم هذا وهذا .
وقال الزَّمَخْشَرِي{[15485]} : " أو بمنزلتها في قولهم : جَالِس الحسن أو ابن سيرين " .
قال أبو حيَّان{[15486]} : " وقال النَّحْويُّون " " أو " في هذا المثال للإباحَةِ ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا ، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا : إن " الحوايا " معطوفٌ على " شُحُومَهُمَا " ، أن تكون " أو " فيه للتفصيل ؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم " .
قال شهاب الدِّين{[15487]} : هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج{[15488]} فإنه قال : وقال قوم : حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب ، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور ، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْم نَسَقاً على ما حَرَّم لا على الاستثناء ، والمَعْنَى على هذا القول : حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَا أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ ، إلا ما حملت الظُّهُور فإنه غير محرَّم ، وأدخلت " أو " على سَبِيل الإبَاحَة ؛ كما قال تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] والمعنى : كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْص هذا أو اعْص هذا و " أو " بَليغة في هذا المَعْنَى ؛ لأنَّك إذا قُلْتَ : " لا تُطِعْ زَيْداً وعَمْراً " فجائز أن تكُون نَهَيْتَي عن طَاعَتهما معاً في حالةٍ ، فإذا أطعْتُ زيداً على حِدَته ، لم أكُن عَاصياً ، وإذا قلت : لا تُطِع زَيْداً أو عمراً أو خالداً ، فالمعنى : أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع ، فلا تُطِع واحداً منهم ، ولا تُطِع الجماعة ؛ ومثله : جَالِس الحَسَنَ أو ابْنَ سيرين أو الشَّعْبي ، فليس المَعنى : أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم ، فإن جَالَسْتَ واحِداً منهم فأنْتَ مُصِيبٌ ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ .
وأمَّا قوله : " فالأحْسَنُ أن تكُون " أو " فيه للتَّفْصِيل " فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء{[15489]} ؛ فإنه قال : و " أو " هنا بِمَعْنى الواو ، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكنها ، وقد ذَكرَناَه في قوله : { كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 135 ] .
وقال ابن عطيَّة{[15490]} ردّاً على هذا القول- أعني كون " الحَوَايَا " نَسَقاً على شُحُومهما - : " وعلى هذا تَدْخُل " الحَوَايَا " في التَّحْريم ، وهذا قَوْلٌ لا يعضدُه لا اللَّفْظ ولا المَعْنَى بل يَدْفَعَانه " ولم يبيِّن وجْه الدَّفْع فيها .
الثالث : أن " الحَوَايَا " في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على المسْتَثْنَى وهو " ما حملت ظُهُورهُمَا " كأنه قيل : إلا ما حَمَلَت الظُّهُور أو الحَوَايا أو إلا ما اختَلَط ، نققله مكِّي{[15491]} ، وأبو البقاء{[15492]} بدأ به ثم قال : " وقيل " هو مَعْطُوف على الشُّحُوم " .
ونقل الواحدي عن الفراء{[15493]} ؛ أنَّه قال : يَجُوز أن يكُون في موضع نَصْب بتقدير حذف المضاف على أن يُريد : أو شُحُوم الحَوَايَا فَيَحذِف الشُّحُوم ويكتفي بالحوايا ؛ كما قال – تعالى - : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] يريد أهلها ، وحكى ابن الأنْبارِي عن أبي عبيد ، أنه قال : قلت للفرَّاء : هو بمنزلة قول الشَّاعِر :
لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤنِّسُه *** باللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُوم والضُّوَعاَ{[15494]}
فقال لي : نَعَم ، يذهب إلى أن " الضُّوَع " عَطْف على " النَّئِيم " ولم يُعْطَف على " البُوم " كما عُطِفت الحَوَايَا على " مَا " ولم تُعْطَفْ على الظُهُور .
قال شهاب الدِّين{[15495]} : فمقتضى ما حكاه ابن الأنْبَارِيِّ : أن تكون " الحَوَايَا " عَطْفاً على " مَا " المسْتَثْنَاة ، " وفي مَعْنَى ذلك قلقٌ بيِّنٌ .
و " الحَوَايَا " قيل : هي المَبَاعِر ، وقيل : المصَارين والأمْعَاء ، وقيل : كل ما تَحْويه البَطْن فاجْتَمع واسْتَدَار ، وقيل : هي الدَّوَّارة الَّتِي في بَطْن الشَّاةِ .
واختلف في مُفْرد " الَحَوايَا " : فقيل : حَاوِيَة ك " ضَارِبة " ، وقيل : حَوِيَّة ك " طَريفَة " ، وقيل : حَاويَاء ك " قَاصِعَاء " .
وجوَّز الفَارِسيُّ أن يكون جَمْعاً لكلِّ واحدٍ من الثلاثة ، يعني : أنه صَالِحٌ لذلك ، وقال ابن الأعْرَابِيِّ : هي الحَويَّة والحَاوِيَة " ولم يَذْكر الحَاويَاء . وذكر ابن السّكِّيت الثلاثة فقال : " يقال : " حَاويَة " و " حَوَايَا " مثل " زاوية " و " زَاوَيَا " ، و " رَاوِيَة " و " رَوَايَا " ، ومنهم من يَقُول : " حَوِيَّة " و " حَوَايَا " ؛ مثل الحَويّة التي تُوضَع على ظهر البَعِير ويُرْكَبُ فَوْقها ، ومنهم من يَقُول لواحِدَتها : " حَاوِيَاء " وأنشد قول جَرَير : [ البسيط ]
تَضْغُو الخَنَانِيصُ والغُولُ الَّتِي أكَلَتْ *** فِي حَاويَاء رَدُومِ اللَّيل مِجْعَار{[15496]}
وأنشد ابن الأنْبَاري : [ الطويل ]
كَأنَّ نَقيقَ الحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ *** فَحِيحُ الأفَاعِي أوْ نَقيقُ العَقَارِبِ{[15497]}
فإن كان مُفْرَدُها حَاوِيَة ، فوزنها فواعِلٌ ؛ كَضَاربة وضَوارب ونظيرها في المُعْتَلِّ : " زاوية " و " زوايا " ، و " رواية " و " روايا " ، والأصل : حَوَاوِي كضوَالرب ، فقُلبت الواو التي هي عَيْن الكَلِمة هَمْزة ؛ لأنها ثاني حَرْفي لينٍ ، اكتنفا مَدّة مفَاعِل ، فاستُثْقَلت هَمْزَة مكْسُورة فَقُلِبت يَاءً ، فاسْتُثْقِلت الكَسْرة على اليَاءِ فجُعِلَتْ فَتْحَة ، فَتَحرَّك حَرْف العِلَّة وهو اليَاءُ الَّتِي هي لامُ الكملة بعد فَتْحَةٍ ، فقُلِبت ألِفاً [ فصارت " حَوَايَا " ، وإن شِئْتَ قلت : قُلِبَت الواوُ هَمْزة مَفْتُوحة ، فتحركت اليَاءُ وانفتح ما قَبْلَها فقُلبَت ألِفاً ] فصارت هَمْزَة مَفْتُوحة بين ألِفين يُشْبِهَانِها فقلبت الهَمْزَة ياءً ، وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا في قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] واخْتِلاف أهل التَّصْريف في ذَلِك .
وكذلك إذا قلنا : مفردها " حاوياء " ، كان وزنها فواعل أيضا ؛ كقاصِعاء وقواصع ، وراهطاء ورواهط ، والأصل : حواوِي أيضا ، ففُعل به ما فُعل في الذي قبله .
وإن قلنا : إن مُفْرَدها " حَويّة " فوزنها فعائل كَطَرائف ، والأصل : حَوَائي فقُلبت الهَمْزَة ياءً مَفْتُوحة ، وقلبت اليَاءُ التي هِيَ لامٌ ألِفاً ، فصار اللَّفْظُ " حَوَايَا " أيضاً ، فاللّفْظُ مُتَّحِد والعَمَل مُخْتَلِف .
قوله : " أوْ مَا اخْتَلَطَ بَعَظْم " فيه ما تقدّم في " حَوَايَا " ورأيُ الفرَّاء{[15498]} فيه : أنَّه مَنْصوب نَسَقاً على " ما " المسْتَثْنَاة في قوله : " إلاَّ ما حَمَلتْ ظُهُورهُما " المُرَاد به الألْيَة .
وقيل : هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْب والعَيْن والأذُن والقَوَائِم ، والمحرَّم الثَّرْبُ وشَحْم الكُلْيَة .
قال القرطبي{[15499]} : أخْبَر الله -تعالى- أنه كَتَب تَحْريم هذا عليهم في التَّوْرَاة رداً لِكَذِبهم ، ونَصُّهُ فيها : " حرّمتُ عَلَيْكم المَيْتَةَ والدّمَ ولَحْمَ الخِنْزِير وكُلَّ دابَّةٍ ليست مَشْقُوقة الحَافِر ، وكل حوتٍ ليس في سَفَاسِقٌ " أي : بياضٌ ، ثم نسخ الله ذلك كُلَّهُ بشريعة محمّد صلى الله عليه وسلم ، وأباح لهم ما كان مُحَرَّماً عليهم مِنَ الحيوان ، وأزال الحرج بمحمَّد - عليه السلام - وألزم الخليقة دين الإسلام ، بحلِّه وحرمه وأمره ونهيه ، فلو ذَبَحُوا أنعامهم فأكَلُوا ما أحَلَّ لَهُم في التَّوْرَاة وترَكُوا ما حرَّم عليهم فهل يحلُّ لنا ؟
قال مَالِكٌ في كِتَاب محمَّد : هي مُحَرَّمة وقال في سماع " المبسوط " : هي محلَّلة ؛ وبه قال ابن نافع .
وقال ابن القاسم : " أكرَهُه " والصَّحيح حِلُّه ؛ لحديث جواب الشَّحْم الذي رَوَاهُ عبد الله بن مغفل{[15500]} .
قوله : " ذَلَك جَزَيْنَاهُمْ " فيه أربعة أوْجُه :
أحدهما : أنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف ، أي : الأمْر ذلك ، قاله الحُوفِيُّ ؛ ومكِّي{[15501]} وأبو البقاء{[15502]} .
الثاني : أنه مُبْتَدأ ، والخبر ما بعده ، والعَائِد مَحْذُوفٌ ، أي : ذلك جَزَيْنَاهُمُوه ، قاله أبو البقاء{[15503]} - رضي الله عنه - وفيه ضَعْف ؛ من حيث إنه حَذَف العَائِد المنْصُوب ، وقد تقدّم ما فيه في المَائدةَ في قوله – تعالى - : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ، وأيضاً فقدَّر العَائِد مُتَّصِلاً ، ويَنْبَغي ألا يُقدَّر إلا مُنْفَصِلاً ولكنه يَشْكُل حذفه ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في أوّل البقرة .
وقال ابن عطيَّة : " ذلك في مَوْضِع رَفْعٍ " ولم يُبَيّنْ على أيِّ الوَجْهيْن المتقدِّمَيْن ، ويَنْبَغي أن يُحَمَل على الأوَّل ؛ لضعف الثَّاني .
الثالث : أنه مَنْصُوب على المَصْدَر ، وهو ظاهر كلام الزَّمخَشَري ؛ فإنه قال : " ذلك الجَزَاء جزيْنَاهُم وهو تَحْريمُ الطِّيِّبات " ، إلا أن هذا قَدْ يَنْخَدِشُ بما نقله ابن مالك ، وهو أنَّ المَصْدَر إذا أشِير إليه ، وجب أنْ يُتْبَع بذلك المَصْدَرُ ؛ فيقال : " ضَرَبْتُ ذلِك الضَّرْبَ " و " قُمْتُ هذا القِيَامَ " ولو قُلْت : " ضَرَبْت زَيْداً ذَلِك " و " قُمْت هذا " لم يَجُزْ ، ذكر ذلك في الرَّدّ على من أجَابَ عن قَوْل المُتَنَبِّي : [ الكامل ]
هَذِي ، بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسا *** ثُمَّ انْصَرَفتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسا{[15504]}
فإنهم لَحَّنوا المُتَنَبّي ، من حيث إنه حَذَف حَرْف النِّدَاء من اسْم الإشَارة ، إذ الأصْل : يَا هَذِي .
فأجابوا عنه : بأنَّا لا نُسَلِّم أن " هَذِي " مُنَادى ، بل [ اسْم ] إشارة إلى المَصْدَر ، كأنَّه قال : بَرَزْتِ هَذِي البَرْزَة .
فردّ ابن مالك هذا الجواب : بأنَّه لا يَنْتَصب اسْمٌ الإشَارة مُشَاراً به إلى المَصْدَر إلا وهو متبوعٌ بالمَصْدَر .
وإذا سُلِّم هذا فيكُون ظاهر قَوْل الزَّمَخْشَري : " إنه مَنْصُوب على المَصْدَر " مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بَيْت أبي الطَّيب ، إلا أن ردّ ابن مالكٍ ليس بِصَحيح ؛ لورود اسْم الإشارة مشاراً به إلى المَصْدَرِ غير مَتْبُوع به ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
يَا عمْرُو إنَّكَ قَدْ مَلِلْت صَحَابَتِي *** وصَحَابَتيكَ إخَالُ ذَاكَ قَليل{[15505]}
قال النّحْويُّون : " ذاك " إشارةٌ إلى مَصْدَر " خال " المؤكِّد له ، وقد أنْشَده هُوَ عَلَى ذلك .
الرابع : أنه مَنْصُوبٌ على أنه مَفْعُول ثانٍ قُدِّم على عَامِله ؛ لأن " جَزَى " يتعدِّى لاثْنَين ، والتَّقْدير : جَزيْنَاهم ذلك التَّحْريم ، وقال أبُو البقاء{[15506]} ومكِّي{[15507]} : إنَّه في مَوْضع نَصْب ب " جَزَيْنَاهُم " ولم يُبَيِّنَا على أيِّ وَجْهٍ انتَصَب : هل على المَفْعُول الثَّانِي أو المصدر ؟
فصل في معنى قوله " جزيناهم ببغيهم "
والمعنى : إنما خَصَصْنَاهم بهذا التَّحْريم جزاءً على بَغْيِهم ، وهو قتلهم الأنْبَياء ، وأخْذِهم الرِّبَا ، وأكْلِهم أمْوال الناس بالبَاطِل ، ونظيره قوله - تعالى- : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] .
قوله : " وإنَّا لَصَادِقُونَ " مَعْمُوله مَحْذُوف ، أي : لصادِقُون في إتمام جَزَائِهِم في الآخِرَة ؛ إذ هو تَعْرِيضٌ بكَذبهم حَيْث قالُوا : نحن مُقْتَدُون في تَحْريم هذه الأشْيَاء بإسْرَائيل ، والمعنى : الصَّادقون في إخْبَارنا عنهم ذلك ، ولا يُقَدَّر له مَعْمُول ، أي : من شأنِنَا الصِّدْق .