{ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قيل الخطاب للكفار وحكى ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي والنعيم عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] للمشركين وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشكروا ذلك بالإيمان به عز وجل والسؤال قيل يجوز أن يكون بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى { كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } [ الملك : 8 ] وقوله سبحانه { ما سلككم في سقر } [ المدثر : 42 ] وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلاماً وادعى للاعتراف بالتقصير فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثم للترتيب الذكرى وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في { ألهاكم } الخ للمهلين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] و { كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] وهذا أيضاً يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمنين وقيل الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال فاخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعاً هو الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن الأمير على كرم الله تعالى وجهه قال النعيم العافية وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعاً النعيم المسؤول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسره قال الخصاف والماء وفلق الكسر وروي عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب وقال الحسين بن الفضل هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه قال ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى لتسئلن يومئذ عن النعيم فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك ادخلت بيتك أحداً وأقعدته في ظل وسقيته اتمن عليه قلت لا قال فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه قلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً } [ آل عمران : 164 ] ومن رواية العياش من الإمامية أيضاً ان أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه قال لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية ما لنعيم عندك يا نعمان فقال القوت من الطعام والماء البارد فقال أبو عبد الله بئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه فقال أبو حنيفة فما النعيم قال نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعدان كانوا مختلفين وبنا ألف الله تعالى بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد ان كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حث النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعثرته عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسئل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي هريرة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فاتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى الله عليه وسلم المرأة قالت مرحباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته مرحباً بنبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فجاء أبو أيوب فقطع عذقاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره قال أحببت يا رسول الله إن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه ثم ذبح جدياً فشوي نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال يا أبا أيوب ابلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ان هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى ثم لتسألن يوئذ عن النعيم فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف بذاك وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقاً فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعاً وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لا بد منه أولاً لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفاً إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعاً عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به لأن كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام ويشكل عليه ما أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى به عورته » وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن وقيل المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبراً لقلبة وإزالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم .
{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال مقاتل : يعني كفار مكة ، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره ، ثم يعذبون على ترك الشكر ، هذا قول الحسن . وعن ابن مسعود رفعه قال : { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : " الأمن والصحة " . وقال قتادة : إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ فقال : خرجت لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنظر إلى وجهه ، وللتسليم عليه ، فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا قد وجدت بعض ذلك ، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، وكان رجلاً كثير النخل والشاء ، ولم يكن له خدم ، فلم يجدوه ، فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق ليستعذب لنا الماء ، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة زعبها ماءً فوضعها ، ثم جاء يلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه ، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً ، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه وبسره ، فقال : يا رسول الله إني أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره ، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تذبحن ذات در ، فذبح لهم عناقاً أو جدياً ، فأتاهم بها ، فأكلوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك خادم ؟ قال : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا أتانا سبي فأتنا ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث ، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهما ، فقال : يا نبي الله اختر لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن المستشار مؤتمن ، خذ هذا ، فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفاً ، فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأته : ما أنت ببالغ فيه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه ، قال : فهو عتيق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه إلا خبالاً ، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " . وروي عن ابن عباس قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العبيد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وذلك قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }( الإسراء- 36 ) . وقال عكرمة : عن الصحة والفراغ . وقال سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة ، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى ، قالا : حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . قال محمد بن كعب : يعني عما أنعم عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : عن الإسلام والسنن . وقال الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع .