{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلاً على شهادة الحال وإيذاناً بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه ، و { مَّعَ } ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها ، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث ، أما أولاً : فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف ، وأما ثانياً : فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به ، وأما ثالثاً : فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره .
وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفاً كان المصدر أو منكراً كقوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } [ النور : 2 ] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني ، واختار «صاحب الفرائد » كونها متعلقة بمحذوف وقع حالاً من { السعى } أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائناً معه ، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه ، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام ، وجوز تعلقه ببلغ ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح ، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقاً بأخلاقه متطبعاً بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه ، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل { بَلَغَ } ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس : { أَسْلَمْتُ * مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين } [ النمل : 44 ] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية . وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلاً ، وتقديم { مَّعَ } إشعاراً منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد ، قال «صاحب الكشف » : وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دوعته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة ، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معاً على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى .
وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه .
وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي ، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أو أنه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك ، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب ، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان { قَالَ يَاءادَمُ * بَنِى * إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها ، ويحتمل أنه رأى ما تأويل ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة ، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير إنهار الدم فأني أذبحك إني أعالج ذبحك ، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأي مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر ، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك ، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع بقوله : { إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلاً فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قرباناً على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة الخ فالأمر إما مناماً وإما يقطة لكن وقع تأكيداً لما في المنام إذ لا محيص عن الايمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقطة أيضاً .
/ ولعل السر في كونه مناماً لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص .
وقيل : كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق ، والأول أولى ، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد ، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة ، وقيل : في الأول لتكرر الرؤية وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة ؛ ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك .
{ فانظر مَاذَا ترى } من الرأي ؛ وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك ، وقرأ حمزة . والكسائي { مَاذَا ترى } بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف ، وقرئ { مَاذَا ترى } بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي ، و { أَنظُرْ } في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي { مَاذَا } الاحتمالان فلا تغفل .
{ قَالَ يَاءادَمُ * ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولاً فعدى الفعل بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوباً ثانياً ، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعدياً بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمرادب المصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به ، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحاً وأن يكون مسبوكاً .
وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه ، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأموراً أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به ، وقيل : للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به ، وقيل : لتكرر الرؤيا ، وقيل : جىء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وأنه ممن لا يجد الشيطان سبيلاً بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك ، ولما كان خطاب الأب { أَوْ بَنِى } على سبيل الترجم قال هو { *يا أبت } على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر .
{ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ * الصابرين } على قضاء الله تعالى ذبحاً كان أو غيره ، وقيل : على الذبح والأول أولى للعموم ويدخل الذبح دخولاً أولياً ، وفي قوله : { مّنَ الصابرين } دون صابراً وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه ، قيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله : { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } [ الكهف : 69 ] حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء . وفيه أيضاً إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عباداً صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك .
قال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وَحْيٌ، لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه: {يَاأَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُومَرُ} ومعرفته أن رؤياه أَمْرٌ أُمِرَ به (الأم: 5/127.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ" يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم...
وقوله: "قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ "يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه: يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ... عن قتادة، قوله: "يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ" قال: رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه...
قوله: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى": اختلفت القرّاء في قراءة قوله: "ماذَا تَرَى"؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قرّاء أهل الكوفة: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى"؟ بفتح التاء، بمعنى: أيّ شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "ماذَا تُرَى" بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ماذَا تَرَى بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل: أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم؛ هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسرّ بذلك أم لا، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
وقوله: "قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ" يقول تعالى ذكره: قال لأبيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي "سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ" يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال: افعل ما تؤمر، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ممن يصبر على الشدائد في حب الله ويسلم أمره إليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد، رأى إبراهيم -عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية، وسميت كذلك لأنه كان يُروّي في ذلك طولَ يومه، هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق، فسمي يوم عرفة.
{يَآ بُنَي إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟} فقال إسماعيل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}: أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه، وإن كان له تأويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ ولكن لا يمكنك تلافيه، ويقال بل قال: أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر، واحملْ الأمر عَلَى الوجوب، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ. ويقال قال له: إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبي أن يذبحني أبي لأجل الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل: مع من؟ فقال مع أبيه، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله؛ لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده... والمراد: أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي إبراهيم عليه السلام: {يا بني} منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب.
{أني أذبحك} أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال.
{فانظر} بعين بصيرتك {ماذا} أي ما الذي {ترى} أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له.
{قال} تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: {يا أبت} تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوقير.
{افعل ما تؤمر} أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى.
{ستجدني} أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: {إن شاء الله} أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال، وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله:
{من الصابرين} أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل، جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم، بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم.. (فلما بلغ معه السعي. قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر: ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. يالله! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم. هذا إبراهيم الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة مجرد إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: (قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى).. فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه! والأمر شاق -ما في ذلك شك- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه.. وهو -مع هذا- يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: (قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين.. (يا أبت).. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته (افعل ما تؤمر)... هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. ولم يأخذها بطولة ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً.. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: (ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان ويالنبل الطاعة ويالعظمة التسليم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في {فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ.
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء، وليس المقصود به التشريع، طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله.
هنا لم يتعرض السياق لحمل السيدة هاجر ولا ولادتها لإسماعيل، إنما انتقل مباشرة من البشارة به إلى مرحلة بلوغه السَّعْيَ مع أبيه، فقال سبحانه بعدها: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ذلك لأن الحق سبحانه هو الذي يتكلَّم، وهو الذي يحكي.
ومن البلاغة أنْ نترك ما يُعلم من السياق، وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني، ففي قصة سيدنا سليمان -عليه السلام- والهدهد، قال تعالى:
{اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]، ثم يختصر السياق كثيراً من الأحداث، ويقول:
{قَالَتْ يٰأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] ولم يتعرض لرحلة الهدهد، ولا لكيفية توصيل الخطاب إلى الملكة.
كذلك هنا: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فبلوغه السَّعْي دلَّ على أن البشارة تحققتْ، ووُلِد الغلام، وبلغ مع أبيه السعي، وفَرْق بين (بلغ السعي) عموماً، وبلغ مع أبيه السعي؛ لأن الغلام لا يُكلَّف بالعمل إلا على قَدْر طاقته في الحركة، وعلى قَدْر عافيته وتحمُّله، وإسماعيل في هذا الوقت بلغ السعي مع أبيه فحسب؛ لأنه لن يُكلِّفه أبوه الحنون إلا بما يقدر عليه من المصالح، والأمور الحياتية، فيفعل الغلامُ ما يقدر عليه، ويترك ما لا يقدر عليه لأبيه، ولو كان مع شخص آخر فربما كلَّفه بما لا يستطيع.
فلما بلغ الغلامُ هذا المبلغَ {قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} والمعنى: أرى في المنام انه مطلوب مني أنْ أذبحَكَ، لا أنَّ الذبح تَمَّ في المنام، وانتهت المسألة بدليل رَدِّ إسماعيل {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمَّلَ هنا الحلم على حقيقته، وعظمة الرد في هذا الامتحان الصعب {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} ولم يقُلْ: افعل ما تريد؛ لأن طاعته لأبيه هنا من باطن طاعته لله تعالى وامتثاله لأمر ربه، فهو يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله، وإنْ جاء هذا الأمر في شكل رؤيا. إذن: هو يعلم رغم صِغَره أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ حَقٌّ.
وسيدنا إبراهيم ينادي ولده {يٰبُنَيَّ} هكذا بالتصغير، لأن بُني تصغير ابن فلم يقل يا ابني، فقد أوثقه الحنان الأبوي، وعرض عليه هذا الابتلاء، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه، لأنه ما يزال صغيراً، ومعلوم أن حنان الوالد يكون على قَدْر حاجة الولد؛ لذلك المرأة العربية لما سُئِلَتْ: أيّ بنيك أحبُّ إليكِ؟ فقالت: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود، والصغير حتى يكبر.
فقوله: {يٰبُنَيَّ} يعني: أنا لا أعاملك معاملةَ النِّدِّ، بل معاملة الصغير المحتاج إلى الحنان الأبوي، فخذ أوامري مصحوبة بهذه العاطفة الأبوية القلبية.
وقوله: {فَانظُرْ} يعني: فكِّر، وتدبَّر {مَاذَا تَرَىٰ} أي: في هذه الرؤيا، فكأن الصغير في هذه المسألة مطلوب منه أمران: برك بأبيك، وبرُّك بربِّ أبيك {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}، فقوله {افْعَلْ} برّ بأبيه. وقوله {مَا تُؤمَرُ} برٌّ بربِّ أبيه.
ثم يؤكد سيدنا إسماعيل رغم صغَره فهمه لهذه القضية، وإدراكه لهذا الابتلاء، فيقول: {سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: على هذا البلاء
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في أمور الحياة.
امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي، فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!