فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة ، والتقدير : فوهبنا له الغلام ، فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه .

قال مجاهد : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } أي : شبّ ، وأدرك سعيه سعي إبراهيم . وقال مقاتل : لما مشى معه . قال الفراء : كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة . وقال الحسن : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة . وقال ابن زيد : هو السعي في العبادة ، وقيل : هو الاحتلام { قَالَ يَا بَنِى إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ : إني رأيت في المنام هذه الرؤيا . قال مقاتل : رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات . قال قتادة : رؤيا الأنبياء حقّ ، إذا رأوا شيئاً فعلوه .

وقد اختلف أهل العلم في الذبيح : هل هو إسحاق أو إسماعيل ؟ قال القرطبي : فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق ، وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله ، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود ، ورواه أيضاً عن جابر ، وعليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعمر بن الخطاب ، قال : فهؤلاء سبعة من الصحابة . قال : ومن التابعين وغيرهم : علقمة ، والشعبي ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وكعب الأحبار ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقاسم بن أبي برزة ، وعطاء ، ومقاتل ، وعبد الرحمن بن سابط ، والزهري ، والسدّي ، وعبد الله بن أبي الهذيل ، ومالك بن أنس كلهم قالوا : الذبيح إسحاق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، واختاره غير واحد ، منهم النحاس ، وابن جرير الطبري وغيرهما . قال : وقال آخرون : هو إسماعيل ، وممن قال بذلك : أبو هريرة ، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس أيضاً ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وعلقمة ، وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة . قال ابن كثير في تفسيره : وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة ، وليس في ذلك كتاب ولا سنّة ، وما أظنّ ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب ، وأخذ مسلماً من غير حجة ، وكتاب الله شاهد ، ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، وقال بعد ذلك { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين } انتهى .

واحتجّ القائلون بأنه إسحاق بأن الله عزّ وجلّ قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة ، وابن أخيه لوط ، فقال : { إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ } أنه دعا ، فقال : { رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين } ، فقال تعالى : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } [ مريم : 49 ] . ولأن الله قال : { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم ، وإنما بشر بإسحاق ، لأنه قال : { وبشرناه بإسحاق } ، وقال هنا : { بغلام حَلِيمٍ } وذلك قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن يصير له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق . قال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح انتهى . وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له .

ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله : { وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] ، وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } [ مريم : 54 ] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ، ولأن الله سبحانه قال : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } فكيف يأمره بذبحه ، وقد وعده أن يكون نبياً ، وأيضاً فإن الله قال : { فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب ، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس ، وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة { فانظر مَاذَا ترى } قرأ حمزة والكسائي { ترى } بضم الفوقية ، وكسر الراء ، والمفعولان محذوفان ، أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك . وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء ، والراء من الرأي ، وهو مضارع رأيت ، وقرأ الضحاك ، والأعمش ، { ترى } بضم التاء ، وفتح الراء مبنياً للمفعول ، أي ماذا يخيل إليك ، ويسنح لخاطرك . قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى : انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك . قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره . وإنما قال العلماء ماذا تشير ، أي ما تريك نفسك من الرأي ، وقال أبو عبيد : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة ، وكذا قال أبو حاتم ، وغلطهما النحاس وقال : هذا يكون من رؤية العين ، وغيرها ، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي ، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم .

{ قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي ، و{ ما } موصولة ، وقيل : مصدرية على معنى : افعل أمرك ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً ، والأوّل أولى { سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } على ما ابتلاني به من الذبح ، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه .

/خ113