الأولى- قوله تعالى : " فلما بلغ معه السعي " أي فوهبنا له الغلام ، فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعماله " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك " . وقال مجاهد : " فلما بلغ معه السعي " أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم . وقال الفراء : كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة . وقال ابن عباس : هو احتلام . قتادة : مشى مع أبيه . الحسن ومقاتل : هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة . ابن زيد : هو السعي في العبادة . ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله عز وجل يقول : " وسعى لها سعيها " [ الإسراء : 19 ] .
واختلف العلماء في المأمور بذبحه . فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق . وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وهو الصحيح عنه . روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال : الذبيح إسحاق . وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له : يا ابن الأشياخ الكرام . فقال عبد الله : ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم . وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم وسلم ) . وروى أبو الزبير عن جابر قال : الذبيح إسحاق . وذلك مروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وعن عبد الله بن عمر : أن الذبيح إسحاق . وهو قول عمر رضي الله عنه . فهؤلاء سبعة من الصحابة . وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط{[13281]} والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس ، كلهم قالوا : الذبيح إسحاق . وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى ، واختاره غير واحد منهم النحاس{[13282]} والطبري وغيرهما . قال سعيد بن جبير : أرى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى به المنحر من منى ، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه ، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال . وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين . وقال آخرون : هو إسماعيل . وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة . وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا ، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة . وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد :
إن الذبيح هُديتَ إسماعيل *** نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرفٌ به خصَّ الإله نبينا *** وأتى به التفسير والتأويل
إن كنت أُمَّتَهُ فلا تُنْكِرْ لهُ *** شرفا به قد خصه التفضيلُ
وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ! ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الذبيح إسماعيل ) والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين . واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه ، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال : " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " أنه دعا فقال : " رب هب لي من الصالحين " فقال تعالى : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب " [ مريم :49 ] ؛ ولأن الله قال : " وفديناه بذبح عظيم " فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق ؛ لأنه قال : " وبشرناه بإسحاق " ، وقال هنا : " بغلام حليم " وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل ، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق . احتج من قال إنه إسماعيل : بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قوله تعالى : " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين " [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : " إنه كان صادق الوعد " [ مريم : 54 ] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به ، ولأن الله تعالى قال : " وبشرناه بإسحاق نبيا " فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا ، وأيضا فإن الله تعالى قال : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " [ هود : 71 ] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب . وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أن الذبيح إسماعيل ، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس . وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع ، أما قولهم : كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى : وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان ، قاله ابن عباس وسيأتي . ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحاق يعقوب . ويقال : لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق . وأما قولهم : ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس ، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم . وقال الزجاج : الله أعلم أيهما الذبيح . وهذا مذهب ثالث .
الثانية- قوله تعالى : " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات . وقال محمد بن كعب : كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا ، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم . وهذا ثابت في الخبر المرفوع ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ) . وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ، واستدل بهذه الآية . وقال السدي : لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح . فقيل له في منامه : قد نذرت فف بنذرك . ويقال : إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان ؟ فسمي يوم التروية . فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة . ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر . وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر . فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر . فقال إبراهيم : الله أكبر والحمد لله ، فبقي سنة . وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر وهي :
الثالثة- فقال أهل السنة : إن نفس الذبح لم يقع ، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح ، ولو وقع لم يتصور رفعه ، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل ؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء . وقوله تعالى : " قد صدقت الرؤيا " : أي حققت ما نبهناك عليه ، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك . هذا أصح ما قيل به في هذا الباب . وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه ؛ لأن معنى ذبحت الشيء قطعته . واستدل على هذا بقول مجاهد : قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني ، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض ، فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت . فقال له ما لك ؟ قال : انقلبت السكين . قال اطعني بها طعنا . وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءا التأم . وقالت طائفة : وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس ، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا . وهذا كله جائز في القدرة الإلهية . لكنه يفتقر إلى نقل صحيح ، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر . ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما ، وكان أولى بالبيان من الفداء . وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم ، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي ، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : " قد صدقت الرؤيا " وهذا كله خارج عن المفهوم . ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم . وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء .
الرابعة- قوله تعالى : " فانظر ماذا ترى " قرأ أهل الكوفة غير عاصم " ماذا ترى " بضم التاء وكسر الراء من أرِى يُري . قال الفراء : أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك . قال الزجاج : لم يقل هذا أحد غيره ، وإنما قال العلماء ماذا تشير ، أي ما تريك نفسك من الرأي . وأنكر أبو عبيد " تُرى " وقال : إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة . وكذلك قال أبو حاتم . النحاس : وهذا غلط ، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور ، يقال : أريت فلانا الصواب ، وأريته رشده ، وهذا ليس من رؤية العين . الباقون " ترى " مضارع رأيت . وقد روي عن الضحاك والأعمش " ترى " غير مسمى الفاعل . ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله ، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله ، أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله ف " قال ياأبت افعل ما تؤمر " أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله :
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ بِهِ
فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء ، كقوله : " وسلام على عباده الذين اصطفى " [ النمل : 59 ] أي اصطفاهم على ما تقدم{[13283]} . و " ما " بمعنى الذي . " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " قال بعض أهل الإشارة : لما استثنى وفقه الله للصبر . وقد مضى الكلام في " يا أبت " [ يوسف : 4 ] وكذلك في " يا بني " [ يوسف : 5 ] في " يوسف " {[13284]} وغيرها .