البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

{ فلما بلغ معه السعي } ، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره : فولد له وشب .

{ فلما بلغ } : أي أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : والسعى هنا : العمل والعبادة والمعونة .

وقال قتادة : السعي على القدم ، يريد سعياً متمكناً ، وفيه قال الزمخشري : لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معاً حد السعي ولا بالسعي ، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه ، فنفى أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : { فلما بلغ معه السعي } ، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي ، قيل : مع من ؟ فقال : مع أبيه ، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء ، فلا يحتمله ، لأنه لم يستحكم قوله ، ولم يطلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة .

انتهى .

{ قال يا بني } : نداء شفقة وترحم .

{ إني أرى في المنام إني أذبحك } : أي بأمر من الله ، ويدل عليه : { افعل ما تؤمر } .

ورؤيا الأنبياء وحي كاليقظة ، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة .

وشاوره بقوله : { فانظر ماذا ترى } ، وإن كان حتماً من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ، ويصبره إن جزع ، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء ، وتسكن نفسه لما لا بد منه ، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس ، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة ، كرؤيا يوسف عليه السلام ، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام ، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق متظافرتان عليه .

قيل : إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله .

فلما بلغ حد السعي معه قيل له : أوف بنذرك .

قيل : رآى ليلة التروية قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا .

فلما أصبح ، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح .

أمن الله هذا الحلم ، فمن ثم سمي يوم التروية .

فلما أمس رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة .

ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحرة ، فسمي يوم النحر .

وقرأ الجمهور : { ترى } ، بفتح التاء والراء ؛ وعبد الله ، والأسود بن يزيد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، ومجاهد ، وحمزة ، والكسائي : بضم التاء وكسر الراء ؛ والضحاك ، والأعمش أيضاً بضم التاء وفتح الراء .

فالأول من الرأي ، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه ؟ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك ؟ وانظر معلقة ، وماذا استفهام .

فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي ، فما مبتدأ ، والفعل بعد ذا صلة .

وإن كانت ذا مركبة ، ففي موضع نصب بالفعل بعدها .

والجملة ، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر .

ولما كان خطاب الأب { يا بنيّ } ، على سبيل الترحم ، قال : هو { يا أبت } ، على سبيل التعظيم والتوقير .

{ افعل ما تؤمر } : أي ما تؤمره ، حذفه وهو منصوب ، وأصله ما تؤمر به ، فحذف الحرف ، واتصل الضمير منصوباً ، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه .

وقال الزمخشري : أو أمرك ، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله ، وفي ذلك خلاف ؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبنى للمفعول ، فيكون ما بعده مفعولاً لم يسم فاعله ، أم يكون ذلك ؟ { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } : كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله ، والرضا بما أمر الله .