بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

قوله عز وجل : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } إلى الحج ، ويقال : إلى الجبل { قَالَ } إبراهيم عليه السلام لابنه { قَالَ يا بني إِنّي أرى في المنام } قال مقاتل : هو إسحاق . وقال الكلبي : هو إسماعيل . وروى معمر عن الزهري قال في قوله : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } قال ابن عباس : هو إسماعيل . وكان ذلك بمنًى . وقال كعب : هو إسحاق . وكان ذلك ببيت المقدس . وقال مجاهد ، وابن عمر ، ومحمد بن كعب القرظي ؛ هو إسماعيل . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو إسحاق . وهكذا روي عن ابن عباس ، وهكذا قال وعكرمة ، وقتادة ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم وهكذا قال أهل الكتابين كلهم ، والذي قال : هو إسماعيل احتج بالكتاب والخبر ، أما الكتاب فهو أنه لما ذكر قصة الذبح قال على أثر ذلك : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } وأما الخبر فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْن » يعني : أباه عبد الله بن عبد المطلب ، وإسماعيل بن إبراهيم .

وأما الذي يقول : هو إسحاق يحتج بما روي في الخبر ، أنه ذكر نسبة يوسف ، فقال : كان يوسف أشرف نسباً . يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله قد اختلفوا فيه هذا الاختلاف ، والله أعلم بالصواب ، والظاهر عند العامة هو إسحاق . فذلك قوله : { قَالَ يا بني إِنّي أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } فظاهر اللفظ أنه رأى في المنام أنه يذبحه ، ولكن معناه : { إِنّي أرى في المنام } أني قد أمرت بذبحك بدليل ما قال في سياق الآية : { قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ } . وروي في الخبر : «أنَّهُ رَأَى فِي المَنَامِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَذْبَحَ وَلَدَكَ فَاسْتَيْقَظَ خَائِفاً ، وَقَالَ : أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . ثُمَّ رَأَى فِي المَنَامِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ مِثْلَ ذلك ، فَاسْتَيْقَظَ وَضَمَّ ابْنَهُ إلى نَفْسِهِ ، وَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ ، فَانقادَ لأمْرِ الله تَعَالَى ، وَقَالَ لامْرَأتِهِ سَارَّة إنِّي أرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى طَاعَةِ رَبِّي ، فَابْعَثِي ابْنِي مَعِي ، فَجَهَّزَتْهُ ، وَبَعَثَتْهُ مَعَهُ »

قال كعب الأحبار : قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً . فلما خرج إبراهيم بابنه ليذبحه ، فذهب الشيطان ، ودخل على سارة . فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ فقالت : غدا به لبعض حاجته . قال : إنه لم يغد به لحاجته ، ولكنه إنما ذهب به ليذبحه ، فقالت : ولم يذبحه ؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك . فقالت : قد أحسن أن يطيع ربه ، فخرج في أثرهما ، فقال للغلام : أين يذهب بك أبوك ؟ قال لبعض حاجته . قال : فإنه لا يذهب بك لحاجته ، ولكنه إنما يذهب بك ليذبحك . فقال : ولم يذبحني ؟ قال : يزعم أن ربه أمره بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمره بذلك ، ليفعلن . فتركه ولحق بإبراهيم ، فقال : أين غدوت بابنك ؟ قال : لحاجة . قال : فإنك لم تغد به لحاجة ، وإنما غدوت به لتذبحه . قال ولم أذبحه ؟ قال : تزعم أن الله تعالى أمرك بذلك . قال : فوالله لئن كان الله أمرني بذلك لأفعلن . فتركه ، وأيس من أن يطاع .

قوله عز وجل : { فانظر مَاذَا ترى قَالَ يا أبت قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاء الله مِنَ الصابرين فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه أَن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } فأوحى الله تعالى إلى إسحاق أن ادع ، فإن لك دعوة مستجابة . فقال إسحاق : اللَّهم إني أدعوك أن تستجيب لي في أيما عبد من الأولين والآخرين لقيك لا يشرك بك شيئاً أن تدخله الجنة . وقال مجاهد : إن إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يذبح ابنه بالسكين ، قال ابنه : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفي ، حتى لا أوذيك إذا أصابني حدّ السكين ، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي ، عسى أن ترحمني ، واجعل وجهي إلى الأرض ، ففعل إبراهيم . فلما أمرّ السكينة على حلقه ، انقلبت . فقال : يا أبت ما لك ؟ قال : قد انقلبت السكين . قال : فاطعن بها طعناً . قال : فطعن ، فانثنت . قال : فعرف الله عز وجل الصدق منه ، ففداه بذبح عظيم ، وقال : هو إسحاق . وروى أسباط عن السدي قال : كان من شأن إسحاق حين أراد أبوه أن يذبحه . أنه ركب مع أبيه في حاجة ، فأعجبه شبابه ، وحسن هيئته ، وكان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له ، قال : هو إذاً لله ذبيح . فقيل لإبراهيم في منامه : قد نذرت لله نذراً فاوفيه ، فلما أصبح قال : { قَالَ يا بني إِنّي أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } يقول : قد أمرت بذبحك { قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ } قال : فانطلق معي ، وأخبر أمك أنك تنطلق إلى أخوالك ، وأخذ إبراهيم معه حبلاً ، ومدية ، يعني : السكين .

فقال له : يا أبتاه حدها فإنه أهون للموت . فانطلق به ، حتى أتى به جبلاً من جبال الشام . فأضجعه في أصرة ، وربط يديه ورجليه ، فقال له إسحاق : يا أبتاه شدّ رباطي ، لكي لا أضطرب ، فيصيب الدم ثيابك ، فتراه سارة ، فتحزن ، فبكى إبراهيم بكاء شديداً . وأخذ الشفرة ، فوضعها على حلقه ، وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة نحاس ، فجعل يحز ، فلا تصنع شيئاً . فلما رأى إبراهيم ذلك ، قلّبه على وجهه ، فضرب الله تعالى على قفاه صفيحة نحاس ، وبكيا حتى ابتلت الأرض من دموعهما . فجعل يحز ، فلا تقطع شيئاً فنودي : { أَن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } ودونك هذا الكبش فهو فداه . فالتفت فإذا هو بكبش أبيض ، أملح ، ينحط من الجبل ، وقد كان رعي في الجنة أربعين خريفاً ، فخلّى عن ابنه ، وأخذ الكبش فذبحه . وقال وهب بن منبه : لما قال لإسحاق : { يا بني إِنّي أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ } ثم قال : يا أبت إني أوصيك بثلاثة أشياء . قال : وكان إسحاق في ذلك اليوم ابن سبع سنين . أحدهما : أن تربط يدي لكيلا أضطرب فأؤذيك ، والثاني أن تجعل وجهي إلى الأرض لكيلا تنظر إلى وجهي فترحمني ، والثالث أن تذهب بقميصي إلى أمي ليكون القميص عندها تذكرة مني . فذلك قوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يا بني إِنّي أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } قرأ حمزة والكسائي { مَاذَا ترى } بضم التاء . يعني : ماذا ترى من صبرك . ويقال : معناه ماذا تشير . وقرأ الباقون : بالنصب ، وهو من الرأي . يعني : ماذا ترى من صبرك . ويقال : معناه ماذا تشير فيما أمر الله به . ويقال : هو من المشورة والرأي قال أبو عبيد : بالنصب تقرأ لأن هذا في موضع المشورة والرأي ، والآخر يستعمل في رؤية العين { قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصابرين } على الذبح .