{ الذين يَحْمِلُونَ العرش } وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة .
/ وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام . وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحاً خفيفاً لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كرى وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه .
والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام . أخرج أبو يعلى . وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الألاض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول : سبحانك أين كنت وأين تكون » . وأخرج أبو داود . وجماعة بسند صحيح عن جابر بفظ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » وهم على ما في بعض الآثار ثمانية . أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ . والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك . وأخرج أبو الشيخ . وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول : حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام ، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية .
أخرج أبو الشيخ عن وهب قال : حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين ، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم ، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياماً على أرجلهم .
وجاء رواية عن وهب أيضاً أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق .
وأخرج ابن المنذر . وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال : حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش .
وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وفي بعض لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور ، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية ، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته ، وفي بعض الآثار عن وهب أنه ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوى ملأت عظمته السماوات والأرض ، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهر الحصر { وَمَنْ حَوْلَهُ } أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى .
وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الإيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وذكر في كثرتهم أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش ، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها باء موحدة ثم ياء . مشددة من كرب بمعنى قرب ، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله
: كروبية منهم ركوع وسجد *** وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة ، وقيل : من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنه أشد الملائكة خوفاً .
وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إِلا بسماع . وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن ، وقال ابن سيناء في رسالة : الملائكة الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الاعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمراً الناظرون إلى المنظر الأبهى نظراً وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرؤون ، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى .
وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عز وجل ، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كرى في حيزه الطبيهي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين ، وكذا ذهبوا إلى إن الحفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القريب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عز وجل ، والحق الحقيقة في الموضعين ؛ وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع .
وقرأ ابن عباس . وفرقة { العرش } بضم العين فقيل : هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش ، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى : { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدراين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملاً له عز وجل ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائهالتي لا تتناهي .
{ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } إيماناً حقيقياً كاملاً ، والتصريح بذلك مع الغني عن ذكره رأساً لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والاشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشقفة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن ، وفيه على ما قيل : اشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان وأما العيان فيغنى عن البيان ، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة ، ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تفضلوني على ابن متى » كذا قيل ، وينبغي أن يعلم أن كون حملة العرش لا يرونه عز وجل بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤسة المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } على إرادة القول أي يقولون ربنا الخ ، والجملة لا محل لها من الإعراب على أنها تفسير ليستغفرون أو في محل رفع على أنه عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من المضير في { يَسْتَغْفِرُونَ } .
وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم ، وجوز أن يكونالاستغفار في قوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض } [ الشورى : 5 ] المفسر بترك معاجلة العقاب وادرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك ، والأظهر كون الجملة تفسيراً ، ونصب { رَّحْمَةً وَعِلْماً } على التمييز وهو محمول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عز وجل بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما ، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه : { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } الخ ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر ، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين عملت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقاً بناء على أنه المتبادر من الاطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك ، وفيه تنبيه على ظهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده .
ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضينان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى
. إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك لا ألما
فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته » وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ههنا ، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به ، وقوله تعالى : { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك ، وفيه دلالة على شدة العذاب .
ومن باب الإشارة : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ غافر : 7 ] الخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض ؛ وفي ذلك أيضاً من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين يحملون عرش الله من ملائكته، ومن حول عرشه، ممن يحفّ به من الملائكة "يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ "يقول: يصلون لربهم بحمده وشكره "وَيُؤْمِنُونَ بِهِ" يقول: ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويشهدون بذلك، لا يستكبرون عن عبادته "وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا" يقول: ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم، فيعفوها عنهم...
وقوله: "رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما"، وفي هذا الكلام محذوف، وهو يقولون، ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا، يقولون: يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. ويعني بقوله: "وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما": وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك، فعلمت كلّ شيء، فلم يخف عليك شيء، ورحمت خلقك، ووسعتهم برحمتك...
وقوله: "فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ" يقول: فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك، فرجع إلى توحيدك، واتبع أمرك ونهيك...
وقوله: "واتّبَعُوا سَبِيلَكَ" يقول: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه، وذلك الدخول في الإسلام...
وقوله: "وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ" يقول: واصرف عن الذين تابوا من الشرك، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} هذه أرجى آية للمؤمنين. والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح عليه السلام حين قال: {ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} [نوح: 28] وقول إبراهيم، صلوات الله عليه، {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [إبراهيم: 41] وما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حين قال له: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]؛ لأنه لا يُحتمل أن يأمر بالاستغفار لهم، ثم لا يجيبه إذا فعل، فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن، فأما رحمة الآخرة فهي للمؤمنين خاصة، وهي كما ذكر في قصة موسى عليه السلام حين قال: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} إلى قوله: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} الآية [الأعراف: 156].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 17] فأبان بذلك فضل الإيمان...
وقد روعي التناسب في قوله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم؛ وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن؛ فإنه لا تجالس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضي قط، ثم لما جاء الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5]...
اعلم أنه تعالى لما بيَّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين، بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش معك والحافون من حول العرش معك ينصرونك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله من الكروبيين، بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح.
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم:"إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...يقال: إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل: فكيف النجاة؟ قيل: بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران؛ ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية، فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر...
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك، إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه: {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال: {ربهم} أي بإحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال...
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله: {ويؤمنون به} لأن الإيمان إنما يكون بالغيب.
ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً؛ لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم؛ لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله: {ويستغفرون} أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً...
ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال: {وسعت كل شيء} ثم بين جهة التوسع بقوله تمييزاً محولاً عن الفاعل: {رحمة} أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك.
{وعلماً} أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جبلته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: {فاغفر للذين تابوا} أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها.
{واتبعوا} أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا {سبيلك} المستقيم الذي لا لبس فيه.
ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: {وقهم عذاب الجحيم} أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن لا نعرف ما هو العرش؟ ولا نملك صورة له، ولا نعرف كيف يحمله حملته، ولا كيف يكون من حوله؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها، ولا من الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله (يسبحون بحمد ربهم) (ويؤمنون به).. وينص القرآن على إيمانهم -وهو مفهوم بداهة- ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر.. هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن، وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال يقولون: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم -في طلب الرحمة للناس- إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون.
(فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة، وبصفة الله هناك: (غافر الذنب وقابل التوب).. كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم، بصفة الله: (شديد العقاب)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادَّةُ بين الحالين والمقالين. وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعاً من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة [الشورى: 5] {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده: {والذين اتخذوا من دونه أولياء اللَّه حفيظ عليهم} [الشورى: 6].
و {الذين يحمِلُون العَرْش} هم الموكَّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17].
{من حَوله} طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقاً لعظمته قال تعالى:
{وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم} [الزمر: 75]، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31].
والإِخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإِيمان. وصِيغةُ المضارع في {يسبحون} و {يؤمنون} و {يستغفرون} مفيدة لتجدد ذلك وتكرره، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله:
{فاغفر للذين تابوا} وقوله: {وأدخِلهم جَنَّات عَدنٍ التي وعَدتَّهُم} [غافر: 8] وقوله: {ومَن تَقِ السَّيِئات} [غافر: 9] الخ.
ومعنى تجدد الإِيمان المستفاد من {ويؤمنون} تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة، وإلا فإن الإِيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره.
والباء في {بِحَمْد رَبهِم} للملابسة، أي يسبحون الله تسبيحاً مصاحباً للحمد، فحذف مفعول {يسبحون} لدلالة المتعلِّق به عليه.
المراد ب {الذين آمنوا} المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحاً لكل المؤمنين.
وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء؛ لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإِجابة، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه؛ لأن سعة الرحمة مما يُطمِع باستجابة الغفران، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيمانِ الذين آمنوا. ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك.
وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنَّ ذاته هي التي وَسِعَتْ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرِد بعدَه فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب؛ لأن للتفصيل بعد الإِجمال تمكيناً للصفة في النفس كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} [مريم: 4].
{كُلَّ شيءٍ} كل موجود، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار، من الإِنسان والحيوان، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحَجر والشجر ونحوهما.
وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14].
ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم؛ اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب.
وتَفَرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا؛ لأنه إذا كان قد عَلم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلَّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها.
ومفعولُ {فاغفر} محذوف للعلم، أي اغفر لهم ما تابوا منه، أي ذنوب الذين تابوا.
المراد بالتوبة: الإِقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله.
اتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتنابُ ما نهاهم عنه، فالإِرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشَوا فيه فوصلوا إلى المقصود.
الجحيم: شدة الالتهاب، وسميت به جهنم دارُ الجزاء على الذنوب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة ويسيطرون على السلطة.
بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين والصابرين، بأنّكم لستم وحدكم، فلا تشعروا بالغربة أبداً، فحملة العرش الإلهي والمقربون منه، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم، إنّهم في دعاء دائم لكم، ويطلبون لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة وهذا هو أفضل أُسلوب للتعاطف مع المؤمنين في ذاك اليوم، وهذا اليوم، وغداً.