روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله } تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه ، وقيل : تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه السلام . وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " فأنزل الله تعالى الآية . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى " فنزلت ، وأخرج ابن أبي حاتم قال : «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال : ما كان لبشر » الخ ، والمعنى ما يصح ، وقيل : ما ينبغي ، وقيل لا يجوز لأحد ، وعبر بالبشر إيذاناً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام .

والجار خبر مقدم لكان ، والمنسبك من { إن } والفعل بعد ، اسمها ، ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف ؛ إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيراً من البشر الكتاب وأخويه ، وعطف الفعل على منصوب أن ، بثم ، تعظيماً لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلاً وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام ، والحكم بمعنى الحكمة ، وقد تقدم معناها ، و العباد جمع عبد قال القاضي : وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيداً لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى ، ولهذا يقال : هؤلاء عبيد زيد ولا يقال : عباده ، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عباداً كائنين لي و { مِن دُونِ الله } متعلق بلفظ { عِبَادًا } لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكاً وإفراداً كما قال الجبائي فإن التجاوز متحقق/ فيهما حتماً ، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى .

{ ولكن كُونُواْ ربانيين } إثبات لما نفى سابقاً ، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل : ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك ، لكن يقول كونوا ربانيين ، فالفعل هنا منصوب أيضاً عطفاً عليه ، وجوز رفعه على المعنى ؛ لأنه في معنى لا يقول ، وقيل : يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك ، ولكن كونوا ربانيين وفسر علي كرم الله تعالى وجهه ، وابن عباس الرباني بالفقيه العالم ، وقتادة والسدي بالعالم الحكيم ، وابن جبير بالحليم التقي ، وابن زيد بالمدبر أمر الناس وهي أقوال متقاربة وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح . وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه ، وهو منسوب إلى الرب كإلهي والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيراً كلحياني لعظيم اللحية ، والجماني لوافر الجمة ، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة ، وقيل : إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربي .

{ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } الباء السببية متعلقة بكونوا أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له ، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر ، وقيل : متعلقة بربانيين لأن فيه معنى الفعل ، وقيل : بمحذوف وقع صفة له والدراسة التكرار يقال : درس الكتاب أي كرره ، وتطلق على القراءة ، وتكرير { بِمَا كُنتُمْ } للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم ، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر ( كان ) مضارعاً بالفضل ، وتحصيل الربانية ، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها ، أو لأن الخطاب الأول : لرؤسائهم ، والثاني : لمن دونهم ، وقيل : لأن متعلق التعليم ، الكتاب بمعنى القرآن ، ومتعلق الدراسة الفقه وفيه بعد بعيد وإن أشعر به كلام بعض السلف . وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب وأبو عمرو ومجاهد { تَعْلَمُونَ } بمعنى عالمين ، وقرىء { تَدْرُسُونَ } بالتشديد من التدريس ، وتدرسون من الإدراس بمعناه ، ومجىء أفعل بمعنى فعل كثير ، وجوز كون القراءة المشهورة أيضاً بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس .

ومن باب الإشارة :{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله } ؛ لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجوداً نورانياً حقياً قابلاً للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوباً بها ، وبين الأمرين تناقض { ولكن } يقول :

{ كُونُواْ ربانيين } [ آل عمران : 79 ] أي منسوبين إلى الرب ، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب ، ولهم في الرباني عبارات كثيرة ، فقال الشبلي : الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه ، وقال سهل : الرباني الذي لا يختار على ربه حالا ، وقال القاسم : هو المتخلق بأخلاق الرب علماً وحكماً ، وقيل : هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده ، وقيل : هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها وقيل ، وقيل . وكل الأقوال ترد من منهل واحد ،