فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون79 )

( ما كان ) أي ما ينبغي ولا يستقيم ( لبشر ) أي جميع بني آدم ولا واحد للفظ بشر كالقوم والرهط ، بيان لافترائهم على الأنبياء إثر بيان افترائهم على الله ، وإنما قيل " لبشر " إشعارا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي تقولوه عليه ( أن يؤتيه الله الكتاب ) الناطق بالحق ( والحكم ) يعني الفهم والعلم وقيل هو إمضاء الحكم من الله ، والأول أولى ( والنبوة ) يعني المنزلة الرفيعة ( ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) أي هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى ما لا يصح عنه ، ولا ينبغي أن يقوله .

( ولكن ) يقول ( كونوا ربانيين ) قال سيبويه : الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كما يقال لعظيم اللحية لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني .

وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، فكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور ، وقال المبرد الربانيون أرباب العلم واحدهم رباني ، من قوله ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه ، والياء للنسب ، فمعنى الرباني العالم بدين الرب القوي التمسك بطاعة الله ، وقيل العالم الحكيم أي كونوا ربانيين بسب كونكم عالمين فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم وقوة التمسك بطاعة الله ، قال ابن عباس معناه : حكماء علماء .

وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه ، وقيل العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي ، وقيل الجامع بين علم البصيرة والسياسة .

ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية اليوم مات رباني هذه الأمة ، وقيل هم ولاة الأمر والعلماء ، وقال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية .

( بما كنتم تعلمون الكتاب ) بالتخفيف والتشديد ، قال مكي التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالما غير معلم فالتشديد يدل على العلم والتعليم ، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط ، ويؤيد الأولى ( وبما كنتم تدرسون ) بالتخفيف .

والحاصل إن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم ، هو أن يكون مع ذلك مخلصا أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية ، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس ، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء ، وبسبب كونكم تدرسون العلم .

وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه ، والدراسة مذاكرة العلم والفقه ، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا فمن اشتغل بها لا لهذا المقصود فقد ضاع علمه وخاب سعيه{[339]} .


[339]:روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق ان يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه – ثم تلا هذه الآية – ولكن كونوا ربانيين " الآية رواه ابن عباس.