غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

72

ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل : { ما كان لبشر } الآية . وقيل : إن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت . وقيل : " إن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله " وقيل : زعمت اليهود أن أحداً لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله : إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } كقوله :{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله }[ التوبة : 31 ] ومعنى قوله : { ما كان لبشر } قال الأصم : لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين }[ الحاقة : 44 ، 45 ] { لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات }

[ الإسراء : 74 ، 75 ] وقيل : معناه أنه تعالى لا يشرف عبداً بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام . وقيل : إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج على صدقه بالمعجزة . فلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً . والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء ، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه .

وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأموراً بتبليغ ما فهم إلى الخلق ، وما أحسن هذا الترتيب ، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مثل هذا القول والاعتقاد ، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق ، فكيف يعقل منه ضده ؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله : { ما كان لبشر } إلى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق . ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح ، لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلاناً لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذباً له فيما ادعاه عليه . ومثله { ما كان لله أن يتخذ من ولد }[ مريم : 35 ] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر . وكذا قوله :{ ما كان لنبي أن يغل }[ آل عمران : 161 ] ومعناه النفي لا النهي . ومعنى " ثم " في قوله : { ثم يقول } تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر { ولكن كونوا } ولكن يقول كونوا { ربانيين } قال سيبويه : الرباني منسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته . وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة . وقال المبرد : والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم . والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة . والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضاً . قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانياً لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه . فمعنى الآية : ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته . وقال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية . وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير . عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة . والباء في قوله : { بما كنتم } للسببية و " ما " مصدرية و { تعلمون } من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانياً ، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على قراءة العلم ، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله .

فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعاً وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع " وفي الآية دليل على صحة قوله صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأنبياء " تأمل تفهم بإذن الله .