تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القُرَظِي ، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعوننا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ ، أو أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، ولا بِذَلِكَ أَمَرَنِي " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } [ الآية ]{[5244]} إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{[5245]} .

فقوله{[5246]} { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني من دون الله ، أي : مع الله ، فإذا{[5247]} كان هذا لا يصلح{[5248]} لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح{[5249]} لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني أهل الكتاب - كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى :

{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ]{[5250]} } [ التوبة : 31 ] وفي المسند ، والترمذي - كما سيأتي - أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم . قال : " بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ{[5251]} عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " .

فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام . إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام . فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق .

وقوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : ولكن يقول الرسول للناسِ : كونوا رَبَّانيين . قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد ، أي : حكماء علماء حلماء . وقال الحسن وغير واحد : فقهاء ، وكذا رُوِي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس . وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى .

وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا : " تَعْلَمُون " أي : تفهمون{[5252]} معناه . وقرئ { تُعَلِّمُون } بالتشديد من التعليم { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون{[5253]} ألفاظه .


[5244]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5245]:السيرة النبوية لابن هشام (1/554) ورواه الطبري في تفسيره (6/539) من طريق ابن إسحاق به.
[5246]:في أ: "وقوله".
[5247]:في جـ، ر، أ، و: "إذا".
[5248]:في أ، و: "يصح".
[5249]:في أ: "يصح".
[5250]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[5251]:في أ، و: "فذاك".
[5252]:في أ، و: "يعلمون أي يفهمون".
[5253]:في ر: "يحفظون".