غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (32)

25

ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً . وقال آخرون : هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك . وأيضاً اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك ، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون . { وللدار الآخرة } قال ابن عباس : هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي . وقال الأصم : التمسك بعمل الآخرة خير . وقال الآخرون : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات ، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض { للذين يتقون } فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي ، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما قال صلى الله عليه وسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » { أفلا تعقلون } قال الواحدي : من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون ، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار ؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل ، فالجمل أكثر أكلاً ، والديك والعصفور أكثر وقاعاً ، والذئب والنمر والحيات أقوى غضباً وقهراً ، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر ، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول ، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية . وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعاً والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون ؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية ، وكم من متمول متغلب أصبح أميراً كبيراً ثم أمسى فقيراً حقيراً . وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوماً آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب ، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره والآفات كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق . قيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال : سرور يوم بتمامه » وهب أن الدست له قد تم ، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض ؟ وكفى بذلك نقصاً وكدراً كما قال :

كمال الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا

/خ37