محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (32)

[ 32 ] { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 32 ) } .

{ وما الحياة الدنيا إلا لعب } أي : هزل ، وعمل لا يجدي نفعا { ولهو } أي : اشتغال بهوى وطرب ، وما لا تقتضيه الحكمة ، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يلتذ به ثم ينقضي .

{ وللدار الآخرة خير للذين يتقون } لدوامها ، وخلوص منافعها ولذاتها عن المضار والآلام .

{ أفلا تعقلون } ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي ، ولا تؤثرون الأدنى الفاني ، على الأعلى الباقي . وههنا .

/ لطائف

الأولى- قال الرازي : اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا ، وتحصيل لذاتها . فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها وركاكتها . واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها . لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها . فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان :

الأول- أن المراد منه حياة الكافر . قال ابن عباس : " يريد حياة أهل الشرك والنفاق " . والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة ، أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة ، فلا تكون لعبا ولهوا .

والقول الثاني- إن هذا عام في حياة المؤمن والكافر . والمراد منه : اللذات الحاصلة في هذه الحياة ، والطيبات المطلوبة في هذه الحياة ، وإنما سماها ب ( اللعب واللهو ) لأن الإنسان ، حال اشتغاله باللعب واللهو ، يلتذ به . ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة . فكذلك هذه الحياة ، لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة .

الثانية : قال الخفاجي : جمع اللهو واللعب في آيات . فتارة يقدم اللعب ، كما هنا . وتارة قدم اللهو كما في العنكبوت{[3409]} . ولهذا التفنن نكتة مذكورة في ( درة التأويل ) ملخصها : أن الفرق بين اللهو واللعب ، مع اشتراكهما في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى أو طرب ، سواء كان حراما أم لا ؛ أن اللهو أعم من اللعب ، فكل لعب لهو ، ولا عكس . فاستماع الملاهي لهو ، وليس بلعب . وقد فرقوا بينهما أيضا بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة ، والاسترواح به ، واللهو كل ما شغل من هوى وطرب ، وإن لم يقصد به / ذلك ، كما نقل عن أهل اللغة ، قالوا : واللهو ، إذا أطلق ، فهو اجتلاب المسرة بالنساء ، كما قال امرؤ القيس{[3410]} :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثاله

وقال قتادة : اللهو ، في لغة اليمن ( المرأة ) . وقيل : اللعب طلب : المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به . واللهو : صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به .

ولما كانت الآية ردا على الكفرة في إنكار الآخرة ، وحصر الحياة في الحياة الدنيا ، وليس في اعتقادهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية – قدم اللعب الدال على ذلك ، وتمم باللهو . وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة وتحقيرها ، بالقياس على الآخرة . ولذا ذكر باسم الإشارة المشعر بالتحقير . والاشتغال باللهو ، مما يقصر به الزمان ، وهو أدخل من اللعب فيه . وأيام السرور قصار ، كما قال :

وليلة إحدى الليالي الزهر***لم تك غير شفق وفجر

/ الثالثة :

في قوله تعالى : { للذين يتقون } تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين ، لعب ولهو .


[3409]:- [29/ العنكبوت/ 64] ونصها: {... وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64)}.
[3410]:- من قصيدته التي مطلعها: ألا عــم صبــاحـا أيها الطلل البالـــي*** لـــم تـــك غيــــــر شفــــــق وفجــــــــــــر قال السندوبي: بسباسة إحدى صواحباته التي يتغزل بهن. لا يحسن اللهو (ويروي: لا يحسن السر) وهو ما يكون بين الرجل والمرأة. وقال الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب: ويروي السر، وهو النكاح. وأمثال جمع مثل، أراد أمثالي من الرجال. ومعنى البيت: أنه لما عيرته وقالت له: كبرت وشغلت عن اللهو. ولا يحسن أمثالك من الرجال اللهو، وإذا لم يحسنه أمثالك فأنت لا تحسنه. وإذا قالت العرب (مثلك لا يحسن كذا) فإنما هو على طريقة التعظيم أن يذكروا مثله ولا يذكروه.