روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

{ وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا } هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلى الله عليه وسلم عن طردهم ، والمراد بالآيات القرآنية أو الحجج مطلقاً ، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به سبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل ، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة ، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه ، وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر . وأخرج عبد بن حميد ومسدد في «مسنده » وابن جرير وآخرون عن ماهان قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئاً فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم . وروي عن أنس مثل ذلك ، وقيل : لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام . والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان .

{ فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراماً لهم بخصوصهم كما روى عن عكرمة واختاره الجبائي ، وقيل : أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن المعنى إقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه . وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية . وهو أيضاً مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه ، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضاً على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمراً له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم .

وقوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلاً وإحساناً بالذات لا بتوسط شيء ( ما ) أصلاً وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى . ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضاً قيل لأنها دعائية إنشائية ، وقيل : إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة . وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم . وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب .

وقوله تعالى : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا } بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بدل من { الرحمة } كما قال أبو علي الفارسي وغيره . وقيل : إنه مفعول { كتاب } و { الرحمة } مفعول له ، وقيل : إنه على تقدير اللام ، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه الخ ودل على ذلك ما قبله . وقرأ الباقون { أَنَّهُ } بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل : وما هذه الرحمة ؟ والضمير للشأن . و ( من ) موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و { مّنكُمْ } في موضع الحال من ضمير الفاعل . وقوله سبحانه : { بِجَهَالَةٍ } حال أيضاً على الأظهر أي من عمل ذنباً وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة . وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل { ثُمَّ تَابَ } عن ذلك { مِن بَعْدِهِ } أي العمل أو السوء { وَأَصْلَحَ } أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبداً .

{ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له . فأن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خبر { مِنْ } أو جواب الشرط ، والخبر حينئذ على الخلاف ، وقدر بعضهم فله أنه الخ أو فعليه أنه الخ ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية ، وقيل : إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه الخ ، وقيل : إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد وقيل : بدل منه ، قال أبو البقاء : وكلاهما ضعيف لوجهين الأول : أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف ، والثاني : أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها ، والتزام الحذف بعيد ، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر . وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية ، وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني ، ولم يطلع على ما قيل أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال : إنه محتمل إعرابي وإن لم يقرأ به ، وليس كما قال .

ومن الناس من قال : إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر ، ولذا قيل : إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذراً : ما أردت إلا خيراً .

وأورد عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال . وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاماً وخطاب { مّنكُمْ } لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال . وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول : لا نسلم تلك الرواية . فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية . ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به . فحينئذ يمكن أن يقال : إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلاً إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهم فإنه دقيق .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا } أي بواسطتها { فَقُلْ } لهم أنت أيها الوسيلة : { سلام عَلَيْكُمُ } وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [ ياس : 58 ] وباقي الآية ظاهر . وقال الإمام الرازي : «إن قوله سبحانه : { وَإِذَا جَاءكَ } الخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه ، وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له ، فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار . ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات ، وهذا ( شرح إجمالي ) لا نهاية لتفاصيله . ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : { سلام عَلَيْكُمُ } فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة .

وقوله سبحانه { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } بشارة بحصول ( الكرامة ) عقيب تلك السلامة . أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانية ومعدن الآفات ( والمخافات ) وموضع التغيرات والتبدلات ، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال » انتهى . وقال آخر : الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا { فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفاً عن كل ما فات { إِنَّهُ مِنَ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور { وَأَصْلَحَ } أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة ( فأنه ) عز شأنه { غَفُورٌ } يسترها عنه { رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] يرحمه بهبة التميكن ونعمة الاستقامة