الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

قوله سبحانه : { وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ }[ الأنعام :54 ] .

قال جمهور المفسِّرين : هؤلاءِ هم الذينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طردهم ، وشَفَعَ ذلك بِأنْ أَمَرَ سبحانه أنْ يسلِّم النبيُّ عليه السلام عليهم ، ويُؤْنِسَهُمْ ، قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتَّ : لما نزلَتْ : { وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا . . . } الآية ، فكُنَّا نأتي النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيقولُ لنا : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، ونقعُدُ معه ، فإذا أراد أنْ يقوم ، قَامَ ، وتركَنا ، فأنزل اللَّه تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم . . . } [ الكهف : 28 ] ، فكان يَقْعُدُ معنا ، فإذا بَلَغَ الوقْتَ الذي يقومُ فيه ، قُمْنا وتركْنَاه ، حتى يقوم ، و{ سلام عَلَيْكُم } : ابتداءٌ ، والتقديرُ : سَلاَمٌ ثابتٌ أو واجبٌ عليكم ، والمعنَى : أمَنَةً لكُمْ مِنْ عذاب اللَّه في الدنيا والآخرة ، ولفظه لفظُ الخَبَر ، وهو في معنى الدُّعَاء ، قال الفَخْر قوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة }[ الأنعام :54 ] النَّفْسُ هاهنا : بمعنى الذَّات ، والحقيقةِ ، لا بمعنى الجِسْمِ ، واللَّهُ تعالى مقدَّس عنه ، انتهى .

قلتُ : قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كتاب «تفسير الأَفْعَال الواقعة في القُرآن » : قوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } ، قال علماؤنا : ( كَتَبَ ) معناه أَوْجَبَ ، وعندي أنه كَتَبَ حقيقةً ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ اللَّهَ خَلَقَ القَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ : اكتب ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ) ، انتهى .

وقرأ عاصمٌ ، وابنُ عَامِرٍ ، ( أنَّهُ ) بفَتْحِ الهَمْزةِ في الأولى ، والثانيةِ «فإنَّهُ » : الأولى بدلٌ من { الرحمة } ، و ( أنَّهُ ) الثانيةُ : خبرُ ابتداءٍ مضمرة ، تقديرُهُ : فأمره أنَّه ( غفورٌ رحيمٌ ) ، هذا مذْهَبُ سيبَوَيْه ، وقرأ ابنُ كَثِيرٍ ، وأبو عَمْرٍو ، وحمزة ، والكسائي ( إنَّهُ ) بكسر الهمزة في الأولى ، والثانية ، وقرأ نافعٌ بفَتْح الأولى ، وكَسْر الثانية ، والجهالةُ في هذا الموضِعِ : تعمُّ التي تُضَادُّ العِلْمَ ، والتي تُشَبَّه بها ، وذلك أنَّ المتعمِّد لفعْلِ الشيء الذي قَدْ نُهِيَ عنه ، تسمى معصيته تِلْكَ جِهَالَةً ، قال مجاهدٌ : مِنَ الجهالةِ ألاَّ يعلم حَلاَلاً مِنْ حرامٍ ، ومن جهالته أنْ يركِّب الأمر ، قُلْتُ : أيْ : يتعمَّده ، من الجهالة الَّتي لا تُضَادُّ العلم ، قولُهُ صلى الله عليه وسلم في استعاذته : ( أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ) ، ومنها قولُ الشَّاعر : [ الوافر ]

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا

قال الفخْر : قال الحَسَنُ : كُلُّ مَنْ عَمِلَ معصيةً ، فهو جاهلٌ ، فقيل : المعنى أنه جاهلٌ بمقدارِ ما فاتَهُ منَ الثَّواب ، وما استحقه من العقابِ ، قلْتُ : وأيضاً فهو جاهلٌ بقَدْر مَنْ عصاه ، انتهى .