" إذا " منصوب بجوابه ، أي : فقلْ ، سلامٌ عليكم وَقْتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح .
وقال أبو البقاء{[14011]} : " والعاملُ في " إذا " معنى الجواب ، أي : إذا جاءوك سَلِّمْ عليهم " ولا حَاجَة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ؛ لأن كونه يُبَلِّغُهُمُ السَّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرَّحْمَةَ ، وأنه من عَمِلَ سُوءاً بجَهَالَةٍ غفر له لا يقوم مقامه السَّلامُ فقط ، وتقديره يفضي إلى ذلك .
وقوله : " سلامٌ " مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نَكِرَةً ؛ لأنه دُعَاءٌ ، والدُّعَاءُ من المُسَوِّغَاتِ .
وقال أبو البقاء{[14012]} : " لما فيه من معنى الفِعْلِ " وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين ، وإنما هو شيء نُقِلَ عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفِعْل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل ، وذلك نحو : " قائم أبواك " ونقل ابن مالك أن سيبويه{[14013]} أوْمَأ إلى جوازه ، واستدلال الأخفش بقوله : [ الطويل ]
خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِياً *** مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ{[14014]}
ولا دليل فيه ؛ لأنَّ " فعيلاً " يقع بلفظ واحدٍ للمفرد وغيره ، ف " خبير " خَبَرٌ مقدَّمٌ ، واسْتَدَلَّ له أيضاً بقول الآخر : [ الوافر ]
فَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ *** إذَا الدَّاعِي المُثَوِّبُ قَالَ : يَا لاَ{[14015]}
ف " خير " مبتدأ ، و " نحن " [ فاعل ]{[14016]} سَدَّ مَسَدَّ الخبر .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون " خير " خبراً مُقدَّماً ، و " نحن " مبتدأ مؤخر ؟
قيل : لئلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بين " أفعل " و " مِنْ " بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ .
و " عليكم " خَبَرُهُ ، و " سلامٌ عليكم " أبلغ من " سَلاَماً عليكم " بالنصب ، وقد تقررَّ هذا في أوَّلِ " الفاتحة " عند قراءة " الحَمْدُ " و " الحَمْدَ " .
وقوله : " كَتَبَ رَبُّكُم " في مَحَلِّ نصب بالقولِ ، لأنه كالتفسير لقوله : " سلامٌ عليكم " .
قال عكرمة : نزلت في الذين نَهَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بَدَأهُمْ بالسلام{[14017]} .
وقال عطاء : نزلت في أبي بكرٍ ، وعُمَرَ ، وعُثمانَ ، وعلي ، وبلال ، وسالم ، وأبي عُبَيْدةَ ، ومُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ ، وحَمْزَة ، وجعفر ، وعُثْمانَ بْنِ مَظْعُون ، وعمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سَلَمَة بْنِ عَبْدِ الأسَدِ{[14018]} .
قال ابن الخطيب{[14019]} : " وها هنا إشْكَالٌ ، وهو أن النَّاسَ اتفقوا على أن هذه السُّورة نزلت دفعةً واحدةً ، وإذا كان كذلك ، فكيف يمكن أن يُقَالَ في كُلِّ واحدٍ من آيات هَذِهِ السُّورة : إن سبب نزول هذه الآية الأمْرُ الفلاني بِعَيْنِهِ ، بل الأقْرَبُ أن تُحْمَلَ هذه الآية على عمومها ، فكل من آمن باللِّهِ دخل تحت هذا التشريف " .
فصل فيما يطلق عليه لفظ " السلام "
قال المبرِّد{[14020]} : السَّلامُ في اللغة على أربعة أشياء :
فمنها سلمت سلاماً ، وهو معنى الدعاء .
ومنها أنه اسْمٌ من أسْمَاء اللَّهِ تعالى .
ومنها الشَّجَرُ العظيم أحْسَبُهُ مُسَمًّى بذلك لسلامتِهِ من الآفَاتِ .
ومنها أيضاً اسم للحِجَارَةِ الصَّلْبَةِ ، وذلك أيضاً لسَلامتِهَا من الرَّخَاوَةِ .
ثم قال الزجَّاج{[14021]} : " سلام عليكم " هاهنا يحتمل أن يكون له تأويلان :
أحدهما : أن يكون مَصْدر : سَلَّمت تسليماً وسلاماً ، مثل " السَّراح " من " التَّسْرِيح " ، ومعنى سلمت عليه سلاماً : دعوت بأن يَسْلَمَ من الآفات في دينِهِ ونَفْسِهِ ، والسَّلامُ بمعنى التَّسْلِيم .
والثاني : أن يكون " السَّلامُ " جَمْعَ " السلامة " ، فمعنى قولك : السَّلامُ عليكم : السَّلامةُ عليكم .
وقال ابن الأنباري{[14022]} : قال قومٌ : السلامُ هو الله تعالى ، فمعنى السَّلامُ عليكم [ يعني الله عليكم ]{[14023]} أي : على حفظكم ، وهذا بَعِيدٌ في هذه الآية لتنكير السَّلامِ ، ولو كان مُعَرَّفاً لصحَّ هذا الوَجْهُ .
قال قوم{[14024]} : إنَّه -تعالى- لمَّا أمَرَ الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يقول لهم : { سلامٌ عَليْكُمْ كَتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة } كان هذا من قول الله فَيَدُلُّ على أنه -تعالى- قال لهم في الدُّنْيَا : سلامٌ عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة .
ومنهم من قال{[14025]} : بل هذا كلامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم .
كتب كذا [ على فلان ]{[14026]} يفيد الإيجاب ، أي : بمعنى قَضَى ، وكلمة " على " أيضاً تُفيدُ الإيجابَ ، ومجموعهما مُبالغة في الإيجاب ، وهذا يقتضي كونه -تعالى- راحماً لِعِبَادِهِ على سبيل الوُجُوبِ ، واختلفوا في ذلك الوجوب ؟
فقال أهْلُ{[14027]} السُّنَّةِ : له -سبحانه وتعالى- أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كَيْفَ شَاءَ وأراد إلاَّ أنه أوجب الرَّحْمَة على نَفْسِهِ على سبيل الفَضْلِ والكرم .
وقالت المعتزلةُ{[14028]} : إنّ كونه عالماً بِقُبْحِ القَبَائِح ، وعالماً بكونه غنيّاً عَنْهَا يمنعه من الإقْدامِ على القَبَائِحِ ، ولو فعله كان ظَالِماً ، والظُّلْمُ قَبِيحٌ ، والقُبْحُ منه مُحَالٌ .
دلَّتْ هذه الآية على جواز تسمية ذاتِ الله -تعالى- بالنفس ، أيضاً قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }
[ المائدة :116 ] يَدُلُّ عليه ، والنَّفْسُ هنا بمعنى الذَّاتِ والحقيقة ، لا بمعنى الجِسْمِ ، والدَّمِ ؛ لأنه -تعالى- مُقدَّسٌ عَنْهُ ؛ لأنه لو كان جِسْماً لكان مُرَكَّباً ، والمُرَكَّب ممكن .
وأيضاً إنه أحَدٌ ، والأحد لا يكون مُرَكَّباً ، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً .
وأيضاً الأجْسَامُ متماثلةٌ في تمام الماهية ، فلو كان جِسْماً لحصل له مِثْل ، وذلك بَاطِلٌ ؛ لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى :11 ] .
قالت المعتزلة{[14029]} : " كَتَبَ ربُكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " يُنَافِي كونه تعالى يخلق الكُفْرَ في الكَافِرِ ، ثم يُعَذِّبُهُ عليه أبَد الآبَادِ ، وينافي أن يقال : إنه يمنعه من الإيمان ، ثم يأمره حال ذلك المَنْعِ بالإيمان ، ثم يعذبه على ذلك .
وأجيب بأنه - تعالى- نَافِعٌ ضارُّ محيي مميت ، فهو -تعالى- فعل تلك الرَّحْمَةَ البالغة ، وفعل هذا القَهْرَ البالغ ولا مُنافَاة بين الأمرين .
قوله : " أنَّهُ ، فأنَّهُ " قرأ ابن عامر{[14030]} ، وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو ، وحمزة{[14031]} ، والكسائي بالكَسْرِ فيهما ، ونافعٌ{[14032]} بفتح الأولى ، وكسر الثانية ، وهذه القراءاتُ الثلاثُ في المُتَواتِرِ ، والأعرج بكسر{[14033]} الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع ، هذه رواية الزّهراوي عنه ، وكذا الدَّاني .
وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافعٍ ، فيحتمل أن يكون عنه رَوَايَتَانِ .
فأمَّا القرَاءةُ الأولَى فَفَتْحُ الأولَى فيها من أربعة أوجه :
أحدها : أنها بدلٌ من " الرحمة " بدل شيء من شيء ، والتقدير : " كتب على نفسه أنه من عمل " إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجمل المتضمنةِ للإخبار بذلك رَحْمَة .
والثاني : أنها في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : " عليه أنه من عمل " إلى آخره .
والثالث : أنها [ فتحت ] على تقدير حَذْفِ حرف الجرَّ ، والتقدير : " لأنه من عمل " ، فلما حُذِفت " اللاَّمُ " جرى في مَحَلِّهَا الخلاف المشهور .
الرابع : أنها مَفْعُولٌ ب " كتب " ، و " الرحمة " مفعول من أجلِهِ ، أي : أنه كتبَ أنَّهُ من عملَ لأجل رحمته إياكم .
قال أبو حيَّان{[14034]} : وينبغي ألاَّ يجوز ؛ لأنَّ فيه تَهْيِئَةَ العامل للعمل ، وقطعه عنه .
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه :
أحدها : أنها في مَحَلِّ رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فَغُفْرَانُهُ ورَحْمَتُهُ حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته .
وقد أجمع القُرَّاءُ على فتح ما بعد " فاء " الجزاء في قوله :
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ }
[ التوبة :63 ] { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } [ الحج :4 ] كما أجمعوا على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن :23 ] .
الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأمره أو شأنه أنه غفورٌ رحيم .
الثالث : أنها تكرير للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعطفت عليها بالفاء ، وهذا مَنْقُولٌ على أبي جَعْفَرٍ النحاس ، وهذا وهمٌ فاحشٌ ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أحدُ مَحْذُوريْنِ : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خبر ، أو شرطٍ بلا جواب .
وبيانُ ذلك أنَّ " مَنْ " في قوله : " أنه مَنْ عَمِلَ " لا تخلو : إمَّا أن تكون مَوْصُولَةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين ، فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، فلو جعلنا " أن " الثانية مَعْطُوفَةً على الأولى لَزِمَ عدمُ خبر المبتدأ ، وجواب الشرط ، وهو لا يجوز .
وقد ذكر هذا الاعتراض ، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال : " ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون } [ المؤمنون :35 ] ودخلت " الفاء " في " فأنه غفور " على حدِّ دخولها في { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران :188 ] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُون } [ آل عمران :188 ] إلاَّ أن هذا ليس مثل " أيَعدكُمْ أنكم " ؛ لأن هذه لا شرط فيها ، وهذه فيها شَرْطٌ ، فيبقى بغير جواب .
فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم " انتهى .
وفيه بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا ، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك .
الرابع : أنها بدلٌ من الأولى ، وهو قول الفرَّاء{[14035]} والزَّجَّاج{[14036]} وهذا مَرْدُودٌ بشيئين :
أحدهما : أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ ، وهذا مقترن بحرف العطف ، فامتنع أن يكون بدلاً .
فإن قيل : نجعل " الفاء " زائدة ، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة ، وهو شيء قال به الأخفش{[14037]} .
وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر ، وهو خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب .
والثاني من الشيئين : خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن الخبر ، أو الجواب كما تقدَّم تقريره ، فإن قيل : نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل : هذا بعيد عن الفَهْمِ .
الخامس : أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ ، تقديره : " فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ " أي : اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره : فعليه أنه غفورٌ ؛ لأنه يرفع به وإن لم يعتمد ، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً .
وأمَّا القراءة الثانية : فكسر الأولى من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مُسْتَأنَفَةٌ ، وأن الكلام تامُّ قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله : { كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ } .
والثاني : أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ ، أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله .
والثالث : أنه أجري " كتب " مُجْرَى " قال " ، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح ، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين .
وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين :
أحدهما : أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً ل " من " الموصُولةِ ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً .
والثاني : أنها عُطِفَتْ على الأولى ، وتكريرٌ لها ، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ ، والشرط بلا جزاءٍ ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ .
وأجاب أبو البقاء{[14038]} عن ذلك بأن خبر " من " محذوف دلَّ عليه الكلامُ ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند من جعل الثانية تَكْرِيراً للأولى ، أو بَدَلاً منها ثم قال : ويجوز أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً ، أي : فإنه غفورٌ له .
قال شهاب الدين{[14039]} : قوله : " ويجوز " ليس بجيِّدٍ ، بل كان ينبغي أن يقول : ويجب ؛ لأنه لا بُدَّ من ضميرٍ عائدٍ على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مُقَامَهُ إن لم يكن نفس المبتدأ .
وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيُؤخَذُ فتْحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك ، وهو ظاهر .
وأمَّا القراءة الرابعة : فكذلك .
وقال أبو شامة : " وأجاز الزَّجَّاج{[14040]} كَسْرَ الأولى ، وفَتْحَ الثانية ، وإن لم يقرأ به " .
قال شهاب الدين{[14041]} : وقد قدَّمْتُ أنَّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدَّاني نقلاها عنه ، فكأن الشَّيْخَ لم يَطَّلِعُ عليها .
وتقدَّم أن سيبويه لم يَرْو عن الأعْرَجِ إلاَّ كقراءة نافعٍ فهذا مما يصلح أن يكون عُذْراً للزَّجَّاج ، وأمَّا أبو شَامَةَ فإنه مُتَأخرٌ ، فعدم اطِّلاعِهِ عَجيبٌ .
و " الهاء " في " أنه " ضمير الأمر والقِصَّةِ ، و " مَنْ " يجوز أن تكون شرطيَّة ، وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مُبْتَدَأةٌ ، و " الفاءُ " ما بعدها في محلِّ جَزْم جواباً إن كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصُولة ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : غفورٌ له .
و " الهاء " في " بعده " يجوز أن تعود على " السُّوء " ، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة :8 ] والأوَّل أوْلَى ؛ لأنه أصْرَحُ ، و " منكم " مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو حالٌ من فاعل " عمل " ، ويجوز أن تكون " مِنْ " للْبَيَانِ ، فيعمل فيها " أعني " مقدراً .
وقوله : " بجهالةٍ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مُتَعلِّق ب " عمل " على أن " الباء " للسَّبَبيَّة ، أي : عمله بسبب الجَهْلِ ، وعبَّر أبو البقاء{[14042]} في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضحٍ .
والثاني : وهو الظَّاهِرُ أنه للحالِ ، أي : عمله مُصَاحباً للجَهَالَةِ ، " ومِنْ " في " مِنْ بعده " لابتداء الغاية .
قال الحسنُ : كل من عمل مَعْصِيَةً فهو جَاهِلٌ{[14043]} ، ثُمَّ اختلفُوا ؛ قال مُجاهد : لا يعلمُ حلالاً من حرامٍ فمن جهالته ركب الأمر{[14044]} . وقيل : جاهلٌ بما يورثه ذلك الذَّنْبُ .
وقيل : جهالتُهُ من حيث إنه آثر المَعْصِيَةَ على الطَّاعةِ ، والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ثُمَّ تاب من{[14045]} بعد ورجع عن ذنْبِهِ ، وأصلح عمله .