بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوٓءَۢا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (54)

قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود . قالت قريش : تدني هؤلاء السفلة هم الذين يلونك أي : يصرونك . فوقع في قلبه أن يطردهم فنزل : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : كان رجال يستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بلال وصهيب ، فيجيء أشراف من قومه وسادتهم فيجلسون ناحية فقالوا له : إنّا سادات قومك وأشرافهم فلو أدنيتنا ؟ فهم أن يفعل فنزل { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } الآية . ويقال : إن أبا جهل وأصحابه اختالوا ليطرد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن نفسه . فقالوا : إن محمداً يتبعه الموالي والأراذل فلو طردهم لاتّبعناه . فاستعانوا بعمر رضي الله عنه فأخبر عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك . فنزل : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } يعني : يعبدون ربهم { بالغداة والعشي } يعني : يصلون لله تعالى في أول النهار وآخره { يُرِيدُونَ } يعني : يريدون بصلواتهم وجه الله تعالى { وجه الله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء } يعني : ما عليك من عملهم من شيء { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء } يعني : الإثم ويقال : معناه : فما عليك إن لم يسلموا ، فليس عليك من أوزارهم شيء . ويقال : يعني به : الضعفة من المسلمين ، فلا تطردهم لأنه ليس عليك من حسابهم من شيء أي : فليس عليك من أرزاقهم شيء لكن أرزاقهم على الله .

ثم قال : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } يعني : لو طردتهم من مجلسك فتكون من الضارين بنفسك . قرأ ابن عامر : { بالغدوة } وقرأ الباقون : { رَبَّهُمْ بالغداة } وهما لغتان .

ثم قال :

{ وَكذلِكَ فَتَنَّا } يقول : هكذا ابتلينا { بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } يعني : الشريف بالوضيع ، والعربي بالمولى ، والغني بالفقير { لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } فلم يكن الاختبار لأجل أن يقولوا ذلك . ولكن كان الاختبار سبباً لقولهم .

وهكذا قوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين } [ القصص : 8 ] فلم يأخذوه لأجل ذلك ، ولكن كان أخذهم سبباً لذلك فكأنهم أخذوه لأجل ذلك ، هاهنا ما كان الاختبار لأجل أن يقولوا هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا لأنهم كانوا يقولون : لو كان خيراً ما سبقونا إليه . ومعناه : ليظهر الذين يقولون : هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا .

قال الله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } يعني : بالموحدين منكم من غيرهم . قال الكلبي : فلما نزلت هذه الآية جاء عمر رضي الله عنه فاعتذر . فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا } يعني عمر { فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } يعني : قبلتُ توبتكم . ويقال : قبل الله عذركم . ويقال : المعنى { وإذا جاءك الذين يؤمنون } بآياتنا يعني : الضعفة من المسلمين ، فابتدئ بالسلام . وقل : سلام عليكم { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } يعني : أوجب الرحمة وقبول التوبة { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } يعني : من ركب معصية وهو جاهل بركوبها ، وإن كان يعلم أنها معصية { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } بعد السوء { وَأَصْلَحَ } العمل { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور يعني : متجاوز للذنوب { رحيم } حين قبل التوبة ، ويقال : معناه : من عمل منكم سوءاً ثم تاب يغفر له ، فكيف من كان قصده الخير فهو أولى بالرحمة .

وروى سفيان عن مجمع عن ماهان الحنفي قال : جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوباً عظاماً فأعرض عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل : { وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } قرأ عاصم وابن عامر { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } : بنصب الألف . فإنه غفور بالنصب على معنى البناء ومعناه : كتب { أَنَّهُ } وقرأ نافع : { أَنَّهُ } بالنصب على معنى البناء { فَإِنَّهُ } بالكسر على معنى الابتداء . وقرأ الباقون : كلاهما بالكسر على معنى الابتداء .