{ واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ } أي من بعد ذهابه إلى الجبل مناجاة ربه سبحانه { مِنْ حُلِيّهِمْ } جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة ، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض ، وقيل : للابتداء أيضاً ، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه ، وقيل : الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالاً مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له ، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل : إنها على ما يتبادر منها بناءً على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا . قال الإمام : روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم .
واستشكل ذلك بكونه أمراً بأخذ مال الغير بغير حق ، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالاً لهم لقوله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم » الحديث على أن ما نقل عن القوم في سورة طه [ 87 ] من قولهم : { حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } يقتضي عدم الحل أيضاً .
وأجيب بأن ذلك أن تقول : إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها ، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده ، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة ، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله ، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه ، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه : { وواعدنا موسى } [ الأعراف : 142 ] عطف قصة على قصة .
وقرأ حمزة . والكسائي { حُلِيّهِمْ } بكسر الحاء اتباعاً لكسر اللام كدلي وبعض { حُلِيّهِمْ } على الأفراد وقوله سبحانه : { عِجْلاً } مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل ، أخر عن المجرور لما مر آنفاً ، وقيل : إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً ، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الأروية غفر ولولد الضبع فرعل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير ذلك ، والمراد هنا ما هو على صورة العجل .
وقوله تعالى : { جَسَداً } بدل من عجلاً أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسداً ، وفسر ببدن ذي لحم ودم ، قال الراغب : الجسد كالجسم لكنه أخص منه ، وقيل : إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ، ويقال أيضاً لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء ، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد ، وجاء المجسد أيضاً بمعنى الأحمر ، وبعض فسر الجسد به هنا فقال : أي أحمر من ذهب { لَّهُ خُوَارٌ } هو صوت البقر خاصة كالثغار للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمؤاء للهرة ، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحنحمة للفرس والرغاء للناقة والصني للفيل والبتغم للظبي والضعيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصبىء للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك .
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ { جؤار } بجيم مضمومة وهمزة ، وهو الصوت الشديد ، ومثله الصياح والصراخ . والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبراً مقدماً وخوار مبتدأ ، والجملة في موضع النعت لعجلاً .
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حياً ، وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عز وجل ، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر . وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين ، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته ، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر . وقال جمع من مفسري المعتزلة : إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خواراً . وما في طه سيأتي إن شاء تعالى الكلام فيه . واختلف في هذا الخوار فقيل : كان مرة واحدة ، وقيل : كان مرات كثيرة ، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وعن السدي أنه كان يخور ويمشي . وعن وهب نفي الحركة ، والآية ساكتة عن إثباتها ، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى ، وليست هذه المسألة من المهمات ، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيراً ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال : قتل بنو فلان قتيلاً والقاتل واحد منهم ، وقيل : لأن المراد اتخاذهم إياه إلهاً ، فالمعنى صيروه إلهاً وعبدوه ، وحينئذٍ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعاً .
قال الحسن : كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام ، واستثنى آخرون غيره معه ، وعلى القول الأول قيل : لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته { خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر ، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر ، وجعله بعضهم تعريضاً بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد ، وقيل : إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه { اتخذوه } تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم ، وهو من باب الكناية على أسلوب :
أن يرى مبصر ويسمع واع *** أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر .
{ وَكَانُواْ ظالمين } اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم ، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك ، وقيل : الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً } صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهباً أو فضة ، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه : { جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } [ الأعراف : 148 ] وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلاً إلى الحق { اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين } [ الأعراف : 148 ] حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.