السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمۡ وَلَا يَهۡدِيهِمۡ سَبِيلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} (148)

{ واتخذ قوم موسى من بعده } أي : بعد ذهابه إلى المناجاة { من حليهم } أي : الذي استعاروه من القبط بسبب عرس فبقي عندهم .

فإن قيل : كيف قال : من حليهم وكان معهم معاراً ؟ أجيب : بأنه لما أهلك الله تعالى قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون 25 وزروع ومقام كريم 26 ونعمة كانوا فيها فاكهين27 كذلك وأورثناها قوماً آخرين } ( الدخان ، الآيات : 25 – 28 ) وقرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء والباقون بضمها { عجلاً } أي : صاغه لهم منه السامري وقوله تعالى : { جسداً } بدل منه أي : صار جسداً ذا لحم ودم { له خوار } أي : صوت البقر .

روي أنّ السامريّ لما صاغ العجل ألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فصار حياً له خوار ، وقيل : صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح جوفه ويصوت . وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأنّ المراد اتخاذهم إياه إلهاً ، وقيل : إنه ما خار إلا مرّة واحدة ، وقيل : إنه كان يخور كثيراً فإذا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقال وهب : كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرّك ، قال السدي : كان يخور ويمشي .

وقوله تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } تقريع على فرط ضلالهم وإفراطهم بالنظر لأن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح أن يعبد ، ثم وصفهم الله تعالى بالظلم بقوله : { اتخذوه } أي : العجل إلهاً { وكانوا ظالمين } أي : واضعين الأشياء في غير موضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم ولا أوّل مناكيرهم واختلفوا هل كل قوم موسى عبدوا العجل أو بعضهم ؟ قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، واحتج عليه بوجهين : الأوّل : عموم هذه الآية ، والثاني : قول موسى عليه السلام في هذه القصة : { رب اغفر لي ولأخي } ( الأعراف ، 151 ) قال : خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدلّ على أنّ من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان ما كان الأمر كذلك ، وقال غيره : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه وإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله : { ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون } ( الأعراف ، 159 ) .