التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

قوله تعالى : ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( .

بعد أن من الله على قوم موسى فأذهب عنهم محنة الضياع في التيه حيث الحيرة والتلجلج والاضطراب بعد ذلك أمرهم الله أن يدخلوا ( هذه القرية ( والقرية من الفعل قرى يقري أي جمع يجمع ، نقول قرى الماء في الحوض أي جمعه فيه ، والمقراة مكان يجتمع فيه الماء وجمعها مقاري وهي الجفان الكبار ومفردها جفنة وهي وعاء واسع لاستيعاب الماء .

وتطلق القرية ويراد بها المدينة ، وقد سميت بالقرية ، لأنها مكان يجتمع فيه الناس ، مثلما نقول قرية النمل مكان اجتماعها ، والقارية الحاضرة الجامعة . {[65]}

على أن المقصود بالقرية هنا موضع خلاف المفسرين ، فقد قيل إنها أريحا وقيل : هي مصر ، وفي قول ثالث : إنها بيت المقدس ، وهو ما يميل إليه أكثر العلماء ، وسواء كان المقصود هذه المدينة أو غيرها من المدن فإن مثل هذا الأمر يعتبر في حكم المنطق والشريعة قد مضى وانقضى ، فهو ليس جزءا من عقيدة التوحيد لا يقبل التغيير أو التطوير ولا هو قاعدة ثابتة في السلوك والأخلاق التي تعتمد القيم الراسخة الأصيلة والتي تظل على الدوام مستقرة لا تتحول . ليس هذا الأمر على شيء من ذلك ولكنه أمر مرحلي قابل للتغيير والتبديل وهو كذلك قابل للتحوير والتطوير بما تقتضيه ملابسات المجتمع ومقتضيات الأعراف والأوضاع والشرائع ، فإذا ما خول الله بني إسرائيل أن يدخلوا القدس في غابر الزمان تحت قيادة منقذهم موسى عليه السلام ، أو يوشع بن نون من بعده فإن مثل هذه المسألة ليس إلا أمرا مرحليا اقتضته ظروف معينة ، وتلك مرحلة من تاريخ بني إسرائيل ليس لها أن تتكرر بالضرورة ، لا بحكم المنطق السليم ، ولا بحكم النبوة الصادقة ، ولا بحكم الدين إذا لم يتخلله تحريف أو خلط أو تزييف ، إنه ليس لهذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل أن تتكرر لمجرد أنها حدثت مرة من زمان ، لأن حدوثها ما كان إلا تنفيذا لأمر من أوامر مرحلية يمكن أن يقع عليها التبديل أو النسخ لتصبح أثرا مسطورا في الكتب من غير مفعول أو تأثير ، فإن من الأولى أن تتغير مثل هذه الأوامر المرحلية التي لا ترتبط بالعقيدة أدنى ارتباط خصوصا إذا علمنا أن ديانة السماء لا تقوم على التعصب للعرق أو الجنس ، كليلا يدعي أحد وهو يتصور تصور الواهمين الحالمين ، أنه ذو انتماء لشعب مفضل مختار خير من شعوب الأرض طرا ، ذلك تصور خاطىء واهم ، وأصدق ما يجيء في هذه المسألة من عدم الاعتداد بالآباء والأجداد الذين مضوا إلى غير رجعة ما قاله الله بني إسرائيل : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) .

قوله : ( فكلوا منها حيث شئتم ) كلوا جملة فعلية تتألف من فعل وفاعله ، حيث ظرف مكان مبني على الضم مضاف إلى الجملة الفعلية بعده ، رغدا اسم مصدر منصوب نائب عن المفعول المطلق ( أكلا ) والرغد الرزق الكثير الواسع .

قوله : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( أمرهم الله لدى وصولهم المدينة أن يدخلوها سجدا ، والمقصود بالسجود هنا يحتمل أحد معنيين وهما : الركوع ، فعلا ، أو الخشوع الوجداني الغامر الذي يقترن بالتواضع عند الدخول ، وكلا الاحتمالين جيد وإن كنت أرجح الأول وهو أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة ركعا وذلك على سبيل الأخذ بالظاهر والاعتماد على مفهوم السجود الذي يراد به هنا الانثناء على هيئة الركوع .

وفوق أمرهم بالدخول سجدا ، أمرهم الله أن يشفعوا ذلك بقولهم : ( حطة ) وهي خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وتقديره : مسألتنا حطة ، وقد اختلف أهل التأويل في المراد بهذه الكلمة ، ويمكن أن نستخلص قولين في المراد بها ، أحدهما : أن الله عز وجل قد تعبد بني إسرائيل بحرفية هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم ، فإنهم بذلك مأمورون أن يعبدوا ربهم بقولهم حطة ، ليكفر الله عنهم مات اقترفوه من المعاصي والذنوب وهم يخالفون عن أمر نبيهم موسى وأمر ربهم ذي الفضل والمنة عليهم .

ثانيهما : أن كلمة حطة تعني احطط عنا الذنوب فهي بذلك منصوبة باعتبارها اسم مصدر ، وفي تقديرنا أن القول الأول أقرب للصواب ، ذلك أن الله سبحانه قد تعبدهم بقولهم هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم لولا أنهم بدلوا تبديلا ، ويعزز هذا القول ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم وقالوا : حبة في شعرة .

وأخرجه البخاري بلفظ آخر وقال : " فبدلوا وقالوا : حطة حبة في شعرة " {[66]} وقد ورد مثل هذا الحديث في غير البخاري ومسلم بلفظ : " حنطة في شعر " وذلك كله على سبيل السخرية والاستهزاء فكتبت عليهم خطيئة مضافة إلى خطاياهم التي قد حفل بها سجل أعمالهم من حيث التمرد والفسق عن أمر الله .

وقوله : ( وسنزيد المحسنين ) وعد الله بالتفكير عن سيئات العاصين الذين خالفوا عن أمر الله بعد أن يقولوا حطة ، وأنه سبحانه سيزيد في إحسان من ظل منهم مستقيما ، فلم يعبد العجل وصان نفسه ولسانه عن الخطايا والذنوب .


[65]:القاموس المحيط جـ 4 ص 379.
[66]:تفسير ابن كثير جـ 1 ص 98.