الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

قوله تعالى : { هَذِهِ الْقَرْيَةَ } : هذه : منصوبةٌ عند سيبويه على الظرف وعند الأخفشِ على المفعولِ به ، وذك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا ب " في " تقول : صَلَّيْتُ في البيتِ ، ولا تقولُ : صَلَّيْتُ البيتَ ؛ إلا ما اسْتُثْني . ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي " دَخَلَ " مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ ، نحو : دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ ، وهذا مذهبُ سيبويهِ . وقال الأخفشُ : " الواقعُ بعد " دَخَلْتُ " مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك : " هَدَمْتُ البيتَ " فلو جاء " دَخَلَ " مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى [ بفي ، نحو : دَخَلْتُ في الأمر ، ولا تقولُ : دَخَلْتُ الأمرَ ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ " دَخَلَ " تَعَدَّى ] ب " في " إلا ما شَذَّ كقولِه :

جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه *** رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ

و " القريةَ " نعتٌ ل " هذه " ، أو عطفُ بيانٍ كما تقدَّم ، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي : جَمَعْتُ : تقولُ : قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ ، أي : جَمَعْتُه ، واسمُ ذلك الماء : قِرَىً بكسر القاف . والمِقْراةُ : الجَفْنَةُ العظيمةُ ، وجمعُها مَقارٍ ، قال :

عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والقَرْيان : اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي يَجْتمع فيه القومُ ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً ، وقوله تعالى : " واسألِ القريةَ " يَحْتَمِلُ الوَجْهين . وقال الراغبُ : " إنها اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً ، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما " .

قولُه تعالى : { الْبَابَ سُجَّداً } " سُجَّدا " حالٌ من فاعلِ " ادْخُلوا " ، وهو جمع ساجدِ . قال أبو البقاء : " وهو أَبْلَغُ من السجود " يعني أنَّ جَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول ، وفيه نَظَرٌ . وأصلُ " باب " : بَوَب لقولهم أَبْواب ، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِية لازدواجِ الكلامِ ، قال الشاعر :

هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ *** يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدِّ والِّلْينا

قوله :حِطَّة " قُرِئ بالرفع والنصب ، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : مسألتُنا حِطَّة أو أمرُك حِطَّة ، قال الزمخشري : والأصلُ النصبُ ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطَّةً ، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ [ معنى ] الثباتِ ، كقوله :

شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى *** صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى

والأصلُ : صَبْراً عليَّ ، اصبرْ صبراً " ، فَجَعَلَه من بابِ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقال ابنُ عطية : " وقيل : أُمِروا أن يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ " يعني على الحكايةِ ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول ، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ . وقال أيضاً : " وقال عكرمة : أُمِروا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم " وحكى قَوْلَيْن آخرين بمعناه ، ثم قال : " فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو : قُلْ لزيد خيراً ، المعنى : قل له ما هو من جنس الخُيور .

وقال النحاس : " الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل ، قال أحمد بن يحيى : " يقال : بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه ، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله :

عَزْل الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ

وقال تعالى : { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] ، ولحديث ابن مسعود " قالوا حِنْطة " تفسيرٌ على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال : " فبدَّل " الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ العَيْنِ ، وهذا المعنى يَقْتضي الرفعَ لا النصبَ .

وقرأ ابنُ أبي عبلة " حِطَّةً " بالنصب ، وفيها وجهان : أحدُهما : أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ ، نحو : ضَرْباً زيداً ، والثاني : أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي : قولوا هذا اللفظَ بعينِه ، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، ورجَّحَ الزمخشري هذا الوجهَ .

والحِطَّةُ : اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة ، وقيل : هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها ، وقيل : هي التوبةُ ، وأنشد :

فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ الل *** هُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا

قوله : " نَغْفِرْ " هو مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم الخلافُ : هل الجازمُ نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ ؟ أي : إنْ يقولوا نَغْفِرْ . وقُرئ " نَغْفِرْ " بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه " وإذ قلنا " و " تُغْفَرْ " مبنياً للمفعول بالتاءِ والياء . و " خَطاياكم " مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه ، فالتاءُ لتأنيثِ الخَطايا ، والياءُ لأن تأنيثَها غيرُ حقيقي ، وللفصلِ أيضاً ب " لكم " . وقُرئ " يَغْفِرْ " مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، وهي في معنى القراءةِ الأولى ، إلا أنَّ فيه التفاتاً . و " لكم " متعلق ب " نَغْفِرْ " . وأدغم أبو عمرو الراءَ في اللام ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها ، قالوا : لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى من اللامِ ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ ، وليسَ فيها ضَعْفٌ ؛ لأنَّ انحرافَ اللامِ يقاوِمُ تكريرَ الراءِ . وقد طَوَّل أبو البقاء وغيرُه في بيانِ ضَعْفِها وقد تقدَّم جوابُه .

قوله : " خَطَايَاكُمْ " : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه ، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم من القراءاتِ ، وفيها أربعةُ أقوال ، أحدُها : وهو قولُ الخليل رحمه الله أن أصلَها : خطايِئٌ ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ ، لأنها جمعُ خطيئة مثل : صحيفة وصحايف ، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا ، على ما تقرَّر في علمِ التصريف ، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان [ بأنْ ] قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت : خَطائِي ، فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ ثقيلٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ ، فَقَلبوا الكسرةَ فتحةً ، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فصارتْ : خطاءَا ، بهمزةٍ بين ألفين ، فاسْتُثْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ ، فكأنه اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ ، فقلبوا الهمزةَ ياءً ، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ ، فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى ، ففيها أربعةُ أعمالٍ ، قلبٌ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ ألفاً ، وإبدالُ الهمزةِ ياءً ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهبُ الخليلِ .

الثاني وعزاه أبو البقاء إليه أيضاً إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة ، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين ، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه : فعالِئ ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً ، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً ، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا : يا لَهَفى ويا أسفى ، فصارت الهمزةُ بين ألفين ، فأُبْدل منها ياءٌ لأن الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ . فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ : تقديمُ اللامِ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً ، ثم إبدالُها ألفاً ، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً . والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان .

الثالث : قولُ سيبويهِ ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم ، فَأَبْدَلَ الياءَ الزائدةَ همزةً ، فاجتمع همزتان ، فَأَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً ، ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم ، ووزنُها عنده فعائل ، مثل صحائِف ، وفيها على قوله خمسةُ تغييراتٍ ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً ، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً ، وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً ، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ ياءً .

الرابع : قولُ الفرَّاء ، وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا ، ورَكِيَّة ورَكايا ، قال الفراء : " ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا " ، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها ، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ ، ولكنه لم يَقُله العربُ ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز . وقال الكسائي : ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل : دَوابّ . وقُرئ " يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم " و " خطيئَتكم " بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و " خَطَأْيَاكم " بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ ، وبالعكسِ . والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم .

والغَفْرُ : السِّتْرُ ، ومنه : المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس ، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها . وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو . والغِفار خِرْقَةٌ تَسْتُر الخِمار [ أن ] يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ . والخطيئة من الخَطَأ ، وأصلُه العُدولُ عن الجهةِ ، وهو أنواعٌ ، أحدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ إرادَته فيفعلُه ، وهذا هو الخطأُ التامُّ يقال منه : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً وخَطْأَةً . والثاني : أن يريدَ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه ، يُقال منه : أَخْطَأ خَطَأً فهو مُخْطِئٌ ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً واتفق منه غيرُهُ يُقال : أخْطَأَ ، وإن وقع كما أراد يُقال : أصاب ، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل فِعْلاً لا يَحْسُنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ : إنه أَخْطأ ، ولهذا يقال أصابَ الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ ، وسيأتي الفرقُ بينهما وبين السيئة إنْ شاءَ اللهُ تعالى .