معاني القرآن للفراء - الفراء  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ }

يقول - والله أعلم - قولوا : ما أُمِرتم به ؛ أي هي حطة ، فخالَفُوا إلى كلام بالنَّبطِية ، فذلك قوله : { فَبَدّلَ الَّذيِنَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .

وبلغني أنّ ابن عباس قال : أُمِروا أن يقولوا : نستغفر الله ؛ فإن يك كذلك فينبغي أن تكون " حِطّة " منصوبة في القراءة ؛ لأنك تقول : قلتُ لا إله إلا الله ، فيقول القائل : قلتَ كلمةً صالحة ، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمارُ ما يرفع أو يخفض أو ينصب ، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا بالقول كقولك : مررت بزيد ، ثم تجعل هذه كلمةً فتقول : قلت كلاما حسنا * ثم تقول : قلتُ زيدٌ قائمٌ ، فيقول : قلتَ كلاما . * وتقول : قد ضربتُ عمرا ، فيقول أيضا : قلتَ كلمةً صالحة .

فأما قول الله تبارك وتعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفعٌ لأن قبله ضميرَ أسمائهم ؛ سيقولون : هم ثلاثة ، إلى آخر الآية . وقوله { وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ } رفع ؛ أي قولوا : الله واحدٌ ، ولا تقولوا الآلهةُ ثلاثةٌ . وقوله : { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُم } ففيها وجهان : إن أردت : ذلك الذي قلنا معذرةٌ إلى ربكم رفعتَ ، وهو الوجه . وإن أردت : قلنا ما قلنا معذرةً إلى الله ؛ فهذا وجهُ نصْب . وأما قوله : { ويَقُولُونَ طاعَةٌ فإذا بَرَزُوا } فإن العرب لا تقوله إلاّ رفعا ؛ وذلك أنّ القوم يُؤمَرون بالأمْر يكرهونه فيقول أحدهم : سمعٌ وطاعةٌ ، أي قد دخلنا أوّلَ هذا الدِّين على أن نَسمعَ ونُطيعَ فيقولون : علينا ما ابتدأناكم به ، ثم يخرجون فيخالفون ، كما قال عز وجل : { فإذا بَرَزُوا مِن عِندِك [ بيَّتَ طائفةٌ منهم غير الذي تقول ] } [ أي ] فإذا خرجوا من عندك بدّلوا . ولو أردت في مثله من الكلام : أي نطيع ، فتكون الطاعة جوابا للأمر بعينه جازَ النصبُ ، لأنّ كلّ مصدر وقع موقع فعَل ويَفْعل جاز نصبُه ، كما قال الله تبارَك وتعالى : { مَعَاذَ اللهِ أَنْ نأخذ } [ معناه والله أعلم : نعوذ بالله أن نأخذ ] . ومثله في النور : { قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طاعّةٌ مَعْرُوفَةٌ } الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهلُ السَّمع والطاعة . وأما قوله في النحل : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ ْماذَا أَنْزَلَ رَبُّكُم قالوا أَساطِيرُ الأَوّلِينَ } * فهذا قولُ أهل الجَحْد ؛ لأنهم قالوا لم ينزل شيئا ، إنما هذا أساطير الأوّلين * وأما الذين آمنوا فإنهم أقرّوا فقالوا : أنزل ربُّنا خيراً ، ولو رُفع خيرٌ على : الذي أنزله خيرٌ لكان صوابا ، فيكون بمنزلة قوله : { يَسْأَلُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } و { قُلِ الْعَفْوُ } النّصبُ على الفعل : يُنفقون العفوَ ، والرفعُ على : الذي يُنفقون عفوُ الأمْوالِ . وقوله : { قَالُوا سلاما قَالَ سَلاَمٌ } فأما السلام ( فقولٌ يقال ) ، فنُصب لوقوع الفعلِ عليه ، كأنّك قلتَ : قلتُ كلاما . وأما قوله : { قَالَ سَلاَمٌ } فإنه جاء فيه نحن " سَلاَمٌ " وأنتم " قَوْمٌ مُنْكَرُونَ " . وبعض المفسرين يقول : { قَالُوا سَلاَما قَالَ سَلاَمٌ } يريد سلّموا عليه فردّ عليهم ، فيقول القائل : ألا كان السّلام رفعاً كلّه أو نصباً كلّه ؟ قلت : السّلام على معنيين : إذا أردتَ به الكلام نصبتَه ، وإذا أضمرت معه " عليكم " رفعتَه . فإن شِئتَ طرحتَ الإضمارَ من أحد الحرفين وأضمرتَه في أحدهما ، وإن شِئتَ رفعتَهما معا ، وإن شِئْت نصبتهما جميعا . والعرب تقول إذا التقوا فقالوا سلامٌ : سلامٌ ، على معنى قالوا السلام عليكم فرّد عليهم الآخرون . والنصب يجوز في إحدى القراءتين " قَالوا سَلاَما قَالَ سَلاَما " . وأنشدني بعضُ بنى عُقَيْل :

فَقُلْنا السَّلامُ فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِها *** فَما كَانَ إِلاَّ وَمْؤُها بِالْحَواجِبِ

فرفع السَّلامُ ؛ لأنه أراد سلّمنا عليها فاتَّقَتْ أن تردّ علينا . ويجوز أن تنصب السلام على مثل قولك : قلنا الكلام ، قلنا السلام ، ومثله : قرأت " الحمدَ " وقرأتُ " الحمدُ " إذا قلت قرأت " الحمدَ " أوقعت عليه الفعل ، وإذا رفعت جعلته حكاية على قرأتُ " الحمدُ لله " .