فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } سميت قرية لاجتماع الناس فيها وقد يطلق عليهم مجازا وقوله تعالى { واسأل القرية } يحتمل الوجهين مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها لأهلها تقول قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف ، قال جمهور المفسرين القرية هي بيت المقدس وبه قال مجاهد ، وقال ابن عباس هي أريحاء قرية الجبارين ، قال ابن الأثير قرية بالغور قريبة من بيت المقدس ، وجزم القاضي وغيره بالأول ، وقيل كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون لأنه هو الذي فتح أريحاء بعد موسى ، لأن موسى مات في التيه ، وعلى الأول القائل موسى عليه السلام ، وقيل قرية من قرى الشام .

{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا } أمر إباحة ، ورغدا كثيرا واسعا أي أكلا رغدا { وادخلوا الباب } الذي أمرتم بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة ، وقيل هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل ومن قال أن القرية أريحاء قال ادخلوا من أي باب كان من أبوابها وكان لها سبعة أبواب .

{ سجدا } أي منحنين كالراكعين أو خضعا متواضعين ، والسجود قيل هو هنا الانحناء وقيل التواضع والخضوع ، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به لأنه لا يمكن الدخول حال السجود .

قال في الكشاف : " أنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا واعترضه أبو حيان في النهر الماد فقال لم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية والأوامر نسب اسنادية انتهى ، ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد ، فمن قال أخرج مسرعا فهو أمر بالخروج على هذه الهيئة ، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر ، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسبا تقييدية فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء زائد على مجرد التقييد .

{ وقولوا حطة } قيل الحطة في الأصل اسم للهيئة من الحط كالجلسة والقعدة وقيل هي التوبة معناه الاستغفار ، وقال ابن فارس في المجمل : حطة كلمة أمروا بها لو قالوها لحطت أوزارهم أي لا يدري معناه ، قال الرازي في تفسيره أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها .

وإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لأن التوبة لا تتم إلا به انتهى ، وكون التوبة لا تتم إلا بذلك ، لا دليل عليه بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا ، وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل أحب إلى الله وأقرب إلى مغفرته وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر .

{ نغفر لكم خطاياكم } أي نسترها عليكم من الغفر وهو الستر ، لأن المغفرة تستر الذنوب ، وخطايا جمع خطية { وسنزيد المحسنين } أي نزيدهم ثوابا أو إحسانا إلى إحسانهم المتقدم وهو اسم فاعل من أحسن .

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ) .

{ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ، وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .