فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

قال جمهور المفسرين : القرية هي بيت المقدس . وقيل إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس ، وقيل : من قرى الشام . وقوله : { كُلُوا } أمر إباحة ، و { رَغَدًا } كثيراً واسعاً ، وهو : نعت لمصدر محذوف ، أي : أكلاً رغداً ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وقد تقدم تفسيره . والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة . وقيل : هو : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل . والسجود قد تقدم تفسيره : وقيل : هو هنا الانحناء ، وقيل : التواضع والخضوع ، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به ؛ لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي . وقال في الكشاف : إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله ، وتواضعاً . واعترضه أبو حيان في النهر المادّ ، فقال : لم يؤمروا بالسجود ، بل هو : قيد في وقوع المأمور به ، وهو : الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية . انتهى . ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد ، فمن قال : اخرج مسرعاً ، فهو أمر بالخروج على هذه الهيئة ، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر ، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية ، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد .

وقوله : { حِطَّةٌ } بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ ، قال الأخفش : وقرئت : «حطة » نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة ، وقيل معناها الاستغفار ومنه قول الشاعر :

فَازَ بِالحطةِ التي أمرَ الله *** بها ذَنْبَ عبده مَغْفُوراً

وقال ابن فارس في المجمل : { حطة } كلمة أمروا بها ، ولو قالوها لحطت أوزارهم . قال الرازي في تفسيره : أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ؛ وذلك لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، وإذا اشتهر ، وأخذ بالذنب ، ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ؛ لأن التوبة لا تتمّ إلا به . انتهى . وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه ، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي ، سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا . وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله - عزّ وجل - أحبّ إلى الله ، وأقرب إلى مغفرته ، وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية ، فذلك باب آخر . وقوله : { يَغْفِر لَكُمْ } قرأ نافع بالياء التحتية المضمومة ، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة ، وقرأه الباقون بالنون ، وهي أولى . والخطايا جمع خطيئة بالهمز ، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف ، وقوله : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } أي : نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم ، وهو اسم فاعل من أحسن ، وقد ثبت في الصحيح : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال :

«أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

/خ59