التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 87 ) وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } .

قال المفسرون في سبب نزول هذه الآية : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة وبالغ في الإنذار والتحذير فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبو ذر ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، ولا ينامون على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك{[1038]} ويترهبوا ويجبوا المذاكير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فقال : " ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ " فقالوا : بلى يا رسول الله . وما أردنا إلا الخير . فقال : " إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا . فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم الدسم ، ومن رغب عن سنتي فليس مني " ثم خرج إلى الناس وخطبهم فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا . أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع . وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتها الجهاد . واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان . فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع " فأنزل الله تعالى الآية . فقالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا . فأنزل الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } {[1039]} .

وهذه الآية تتضمن ردا صريحا على الغلاة من المتزهدين والمتصوفين الذين عدلوا عن طريق الشريعة المستقيم . الطريق الميسور الحكيم الذي يقف بين الإفراط والتفريط . فلا هو بإفراط يهود ولا بتفريط النصارى . وإنما هو المنهج القائم المعتدل الوسط الذي يراعي فطرة الإنسان خير مراعاة وينسجم وطبيعته النفسية والروحية والعضوية أكمل انسجام . خلافا للغلاة من الزهاد والمتصوفة الذين ركنوا إلى الشطط والمغالاة ، ومضوا في طريق التزمت والتنطع على غير ما تقرره شريعة الإسلام من بساطة وتيسير . ومن جملة التنطع والمغالاة تحريم ما أحل الله ، وإيثار الخشونة والشظف على التنعم والاستمتاع باللذائد المباحة من غير ما حجة في ذلك ولا برهان ، إلا الجنوح صوب التزهد المشتط أو التصوف المغالي رغبة في تعذيب النفس . والحقيقة التي يقررها الإسلام أنه لا مساغ لأحد من المسلمين أن يعذب نفسه بتحريم شيء أحله الله وهو يزعم خاطئا أنه يتقرب بذلك إلى الله . وليس ذلك في الحقيقة إلا الوهم أو الجهل الذي يراود أحلام هؤلاء الشاطحين الجانحين عن جادة الإسلام ، الهائمين في متاهات الجهالة والزلل . وخير دليل على سواء{[1040]} الإسلام قوله سبحانه { يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } أي لا تمنعوا أنفسكم ما طاب ولذ من حلال المطعومات والمشروبات والملبوسات والمناكح وغير ذلك من وجوه اللذائذ المستطابة المباحة . ومعنى لا تحرموا ، أي لا تقولوا : حرمناها على أنفسنا على سبيل المبالغة في العزم على تركها تزهدا وتقشفا . وقيل : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين .

وفي جملة المقصود عن سهولة الشريعة وقيامها على السواء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " {[1041]} .

قوله : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } أي لا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم . وقيل : لا تسرفوا في تناول الحلال ، فإنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى : { ولا تعتدوا } ونظير ذلك قوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } فيكون المعنى : لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الجد فيه .

وقيل : لا تحرموا على أنفسكم المباحات مبالغة منكم في التضييق على أنفسكم فإن ذلك اعتداء منكم . والله سبحانه وتعالى يبغض المتجاوزين لحدود ما أحله لهم ، المجانبين للسبيل الأمثل وهو الانتفاع بالحلال والطيبات في قصد واعتدال من غير إفراط ولا تفريط .


[1038]:- الودك: دسم اللحم. انظر مختار الصحاح ص 715.
[1039]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 137- 138 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 87 وتفسير الطبري ج 7 ص 6.
[1040]:- السواء، معناه العدل. وسواء الشيء وسطه. انظر مختار الصحاح ص 223
[1041]:- أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي عمرو.