استئناف وتمهيد لقوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ذلك أنّ أساس الإسلام هو توحيد الله ، وإعلان هذا التوحيد ، وتخليصه من شوائب الإشراك ، وفيه تعريض بالمشركين وبالنصارى واليهود ، وإن تفاوَتوا في مراتب الإشراك ، وفيه ضرب من ردّ العجز على الصدر : لأنّه يؤكد ما افتتحت به السورة من قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، نزل عليك الكتاب بالحق } ( آل عمران : 2 ، 3 ) .
والشهادة حقيقتها خبر يصدَّق به خَبَرُ مُخْبِرٍ وقد يكذّب به خبرُ آخرَ كما تقدم عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } في سورة البقرة ( 282 ) . وإذ قد كان شأنه أن يكون للتصديق والتكذيب في الحقوق ، كان مظنّة اهتمام المخبِر به والتثبّتِ فيه ، فلذلك أطلق مجازاً على الخبر الذي لا ينبغي أن يشكّ فيه قال تعالى : { واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة التلازم ، فشهادة اللَّه تحقيقُه وحدانيتَه بالدلائل التي نصبها على ذلك ، وشهادةُ الملائكة تحقيقهم ذلك فيما بينهم ، وتبليغ بعضهم ذلك إلى الرسل ، وشهادة أولي العلم تحقيقهم ذلك بالحجج والأدلة .
فإطلاق الشهادة على هذه الأخبار مجاز بعلاقة اللزوم ، أو تشبيه الإخبار بالإخبار أو المخبِر بالمخبِر ، ولك أن تجعل « شهد » بمعنى بيَّن وأقام الأدلة ، شُبه إقامة الأدلة على وحدانيته : من إيجاد المخلوقات ونصب الأدلة العقلية ، بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف على طريق الاستعارة التَبعية ، وبَيّن ذلك الملائكة بما نَزَلوا به من الوحي على الرسل ، وما نطقوا به من محامد ، وبيَّن ذلك أولو العلم بما أقاموا من الحجج على الملاحدة ، ولك أن تجعل شهادة الله بمعنى الدلالة ونصب الأدلة ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار أو بمعنيين : إقرار الملائكة ، واحتجاج أولي العلم ، ثم تِبْنيَه على استعمال شهد في معانٍ مجازية ، مثل : { إنّ الله وملائكته يصلّون } [ الأحزاب : 56 ] ، أو على استعمال شهد في مجاز أعم ، وهو الإظهار ، حتى يكون نصب الأدلة والإقرار والاحتجاج من أفراد ذلك العام ، بناء على عموم المجاز .
وانتصب { قائماً بالقسط } على الحال من الضمير في قوله : { إلاّ هو } أي شهد بوحدانيته وقيامِه بالعدل ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم الجلالة من قوله : { شهد الله } فيكون حالاً مؤكدة لمضمون شهد ؛ لأنّ الشهادة هذه قيام بالقسط ، فالشاهد بها قائم بالقسط ، قال تعالى : { كونوا قوامين للَّه شهداء بالقسط } [ المائدة : 8 ] . وزعم ابن هشام في الباب الرابع : أنّ كونه حالاً مؤكدة وهَم ، وعلّله بما هو وهَم . وقد ذكر الشيخ محمد الرصاع جريان بحث في إعرَاب مثل هذه الحال من سورة الصف في درس شيخه محمد ابن عقاب .
والقيام هنا بمعنى المواظبة كقوله : { أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وقوله :
{ ليقوم الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وتقول : الأمير قائم بمصالح الأمة ، كما تقول : ساهر عليها ، ومنه « إقام الصلاة » وقول أيمن بن خُريم الأنصاري :
أقامتْ غَزالةُ سُوقَ الضِّراب *** لأِهْل العِراقَيْننِ حَوْلاً قميطاً
والقسط : العدل وهو مختصر من القسطاس بضم القاف روى البخاري عن مجاهد أنّه قال : القسطاس : العدل بالرومية وهذه الكلمة ثابتة في اللغات الرومية وهي من اللاطينية ، ويطلق القسط والقسطاس على الميزان ، لأنّه آلة للعدل قال تعالى : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ] وقال : { ونضع الموازين القِسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] . وقد أقام الله القسط في تكوين العوالم على نُظُمها ، وفي تقدير بقاء الأنواع ، وإيداع أسباب المدافعة في نفوس الموجودات ، وفيما شرع للبشر من الشرائع في الاعتقاد والعمل : لدفع ظلم بعضهم بعضاً ، وظلمِهم أنفسَهم ، فهو القائم بالعدل سبحانه ، وعَدْل الناس مقتبس من محاكاة عدله .
وقوله : { لا إله إلا هو } تمجيد وتصديق ، نشأ عن شهادة الموجودات كلّها له بذلك فهو تلقينُ الإقرار له بذلك على نحو قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلّون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] أي اقتداء بالله وملائكته ، على أنّه يفيد مع ذلك تأكيد الجملة السابقة ، ويمهّد لوصفه تعالى بالعزيز الحكيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم. فالملائكة معطوف بهم على اسم الله.
فالصواب [في] قراءة ذلك فتح الألف من «أنه» الأولى، وكسر الألف من «إنّ» الثانية، أعني من قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام} ابتداء.
وقد رُوي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدّال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية في فتح
«أن» من قوله: {أنّ الدّينَ} وهو: {شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ} إلى: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} فإن الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام.
فهذا التأويل يدل على أن الشهادة إنما هي عامة في «أن» الثانية التي في قوله: {أنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسْلام} فعلى هذا التأويل جائز في «أن» الأولى وجهان من التأويل: أحدهما أن تكون الأولى منصوبة على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد، فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم، والشهادة عاملة في «أنّ» الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، لأنه واحد، ثم تقدم «لأنه واحد» فتفتحها على ذلك التأويل.
والوجه الثاني: أن تكون «إن» الأولى مكسورة بمعنى الابتداء لأنها معترض بها، والشهادة واقعة على «أن» الثانية، فيكون معنى الكلام: شهد الله فإنه لا إلَه إلا هو والملائكة، أن الدين عند الله الإسلام، كقول القائل: أشهد فإني محق أنك مما تعاب به بريء، ف«إنّ» الأولى مكسورة لأنها معترضة، والشهادة واقعة على «أن» الثانية.
{قائما بالقِسطِ}: أنه الذي يلي العدل بين خلقه. والقسط: هو العدل، من قولهم: هو مقسط، وقد أقسط، إذا عدل.
{لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}: نفى أن يكون شيء يستحق العبودية غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. ويعني بالعزيز: الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه، الحكيم في تدبيره، فلا يدخله خلل.
وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا، واتخاذهم دونه أربابا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدؤوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدبا خلقه بذلك.
والمراد من الكلام: الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدموه من ملائكته وعلماء عباده، فأعلمهم أن ملائكته التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم وأهلَ العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم، وقولهم في عيسى وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق، فقال شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إلَه إلا هو، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب¹ احتجاجا منه لنبيه عليه الصلاة والسلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى، واعترض بذكر الله وصفته على ما نبينه، كما قال جل ثناؤه: {وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ} افتتاحا باسمه الكلام، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفنا من نفي الألوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{شهد الله أنه لا إله إلا هو}: قيل: {شهد الله} شهادة ذاتية، أي هو بذاته {أنه لا إله إلا هو} أي خلق من الخلائق ما تشهد خلقة كل واحد بوحدانيته وإلهيته؛ لو نظروا في خلقتهم، وتدبروا فيها، وكذلك {والملائكة وأولو العلم} شهدوا أن لا إله إلا هو على تأويل الأول، وعلى تأويل الثاني أن [خلقه: الملائكة وأولي] العلم يشهدون على وحدانيته، فشهدوا على ذلك إلا الجهال فإنهم لم يتأملوا في أنفسهم، [ولم يتفكروا]، ولم يشهدوا به لأنه أمر الرسل والأنبياء عليهم السلام بأن يقولوا: {لا إله إلا الله}. فقوله وأمره به شهادة منه. ويحتمل شهادة القول كقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56]؛ وذلك من الله الربوبية، ومن الخلق العبودية له، فيجب أن تعرف الربوبية من العبودية.
وقيل: {شهد الله} أي علم الله {أنه لا إله إلا هو} وكذلك علم الملائكة أولو العلم {أنه لا إله إلا هو}. فإن قال لنا ملحد: كيف صح، وهو دعوى؟ قيل: لأن من ظهر صدقه في شهادته إذا شهد، وهو مقبول، وهو بما ادعى من الألوهية والربوبية إذا لم يستقبله أحد، ظهر صدقه وقهر كل مكذب له في دعواه، وبالله النجاة.
{قائما بالقسط} أي حافظا به ومتوليا كقوله: {قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33] أي حافظ لها ومتول كما يقال: فلان قائم على أمر فلان أي حافظ لأمره ومتعاهد لأسبابه. وقال الشيخ، رحمه الله تعالى: وقيل: عادل أي لا يجوز، لا أن ثم معنى القيام كقوله: {قوامين بالقسط} [النساء: 135] مقسطين، لا أن ثم للقيام فيه معنى يسبق الوهم إليه، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حقيقة الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة أو ما يقوم مقام المشاهدة من الدلالات الواضحة، والحجج اللائحة على وحدانيته من عجيب خلقه، ولطيف حكمته في ما خلق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{شَهِدَ اللهَ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: أي عَلِمَ اللهُ وأخبر اللهُ وحَكَمَ اللهُ بأنه لا إله إلا هو، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق، وأوَّلُ مَنْ شهد بأنه اللهُ: اللهُ، فشهد في آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلي، وأخبر عن وجوده الأحدي، وكونه الصمدي، وعونه القيومي، وذاته الديمومي، وجلاله السرمدي، وجماله الأبدي. فقال: {شَهِدَ اللهُ} ثم في آباده، "شهد الله "أي بيَّنَ اللهُ بما نَصَبَ من البراهين، وأثبت من دلائل اليقين، وأوضح من الآيات، وأبدى من البينات. فكلُّ جزءٍ من جميع ما خلق وفطر، ومن كتم العدم أظهر، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل، من أعيان مستقلة، وآثار في (ثاني) وجودها مضمحلة، وذوات للملاقاة قابلة، وصفات في المَحَالِّ متعاقبة -فهو لوجوده مُفْصِح، ولربوبيته موضِّح، وعلى قِدَمِه شاهد، وللعقول مُخْبِر بأنه واحد، عزيز ماجد، شهد سبحانه بجلال قَدْره، وكمال عزه، حين لا جحد ولا جهود ولا عرفان لمخلوق ولا عقل، ولا وفاق، ولا كفر، ولا حدثان، ولا غير، ولا إلحاد، ولا شِرْك، ولا فهم ولا فكر، ولا سماء ولا فضاء، ولا ظلام ولا ضياء، ولا وصول للمزدوجات، ولا فضول باختلاف الآفات. {وَالمَلاَئِكَةِ}: لم يؤيِّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم، وإلى معرفة وحدانيته أرشدهم. {وَأُولُوا العِلْمِ}: وهم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم، فشهدوا عن شهود وتعيين، لا عن ظن وتخمين، إن لم يدركوه- اليوم -ضرورة وحِسَّاً، لم يعتقدوه ظنّاً وحَدْساً؛ تعرَّف إليهم فعرفوه، وأشهدهم فلذلك شهدوا، ولو لم يقُلْ لهم إنه مَنْ هو لَمَا عرفوا مَنْ هو.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}. 188- انظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلا. [الإحياء: 1/15]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك واحتجاجهم عليه {قَائِمَاً بالقسط} مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91]...
ذكروا في قوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} قولين: أحدهما: أن الشهادة من الله تعالى، ومن الملائكة، ومن أولي العلم بمعنى واحد. الثاني: أنه ليس كذلك.
أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين:
الوجه الأول: أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحدا لا إله معه، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضا أن الله تعالى واحد لا شريك له، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم. الوجه الثاني: أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان، ثم نقول: إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك، وبينوه بتقرير الدلائل والبراهين، أما الملائكة فقد بينوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل للعلماء، والعلماء لعامة الخلق، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى، وفي حق أولي العلم، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام...
القول الثاني: قول من يقول: شهادة الله تعالى على توحيده، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ...
{العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما، لأن كونه قائما بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات، وكان قادرا على تحصيل المهمات، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان مقدما في المعرفة الاستدلالية، وكان هذا الخطاب مع المستدلين، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم:"وقل رب زدني علما" [طه: 114]. فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء). وقال: (العلماء أمناء الله على خلقه). وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فتضمنت هذه الآية: أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود. وعبارات السلف في (شهد) تدور على: الحكم والقضاء، والإعلام والبيان والإخبار...
فأول مراتبها: علم ومعرفة، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم به مع نفسه، ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، ويخبره به، ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به. فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط، تضمنت هذه المراتب الأربعة: علم الله سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به...
أما مرتبة العلم: فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف: 86] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على مثلها فاشهد» وأشار إلى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر: فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به. وإن لم يتلفظ بالشهادة. قال تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم} [الأنعام: 150]، وقال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 19] فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله». وشهادة الزور: هي قول الزور، كما قال تعالى: {واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به} [الحج: 30...
وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. فشهادة المرء على نفسه: هي إقراره على نفسه. وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز: «فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقال تعالى: {قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام:130]...
وأما مرتبة الإعلام والإخبار: فنوعان: (إعلام بالقول، وإعلام بالفعل). وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر؛ تارة يعلمه بقوله، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها، وأذن بالصلاة فيها -معلما أنها وقف، وإن لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار- معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله. وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه: يكون بقوله تارة، وبفعله تارة أخرى...
والمقصود: أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه. فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية، فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل، كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]. أي أن القرآن حق فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية...
وأما المرتبة الرابعة: (وهي الأمر بذلك والإلزام به)، وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه، وتتضمنه. فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به كما قال تعالى: {وقضى ربك أن ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] وقال تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} [النحل: 51] وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] وقال تعالى: {لا تجعل مع الله إلها آخر} [الإسراء: 22]، وقال تعالى: {فلا تدع مع الله إلها آخر} [الشعراء: 213] والقرآن كله شاهد بذلك. ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر، وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم. فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره. وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها...
وأيضا: فإن الأدلة قد دلت أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده...
والحق الذي خلقت به السموات والأرض، ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والشرع والقدر والخلق، والثواب والعقاب قائم بالعدل. والتوحيد صادر عنهما، وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى. قال تعالى حكاية عن نبيه هود عليه السلام أنه قال: {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 56] فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله. فهو يقول الحق ويفعل العدل {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 115] {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى: هو مقتضى التوحيد والعدل. قال تعالى: {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [النحل: 76]...
قوله {لا إله إلا هو}(...). والثانية: رسم وتعليم، أي: «قولوا: لا إله إلا هو». ومعنى هذا: أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها. والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة الله. لا عن شهادته هو. وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي. فيكون شاهدا هو بها أيضا...
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره. فإنه الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود له، وهو الحكم والدليل وهو الدعوة والبينة. قال الله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} [هود: 17] أي من ربه وهو القرآن. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله له: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} [العنكبوت: 51. 52]. فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم يكفي من كل آية، ففيه الحجة، والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة وينجبه من العذاب، ثم قال: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض} [العنكبوت: 52]...
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها، وصدقه بسائر أنواع التصديق، بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه، وبفعله وإقراره، وبما فطر عليه عباده، من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا يليق به. وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد. ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال، والعقوبات المعجلة، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} [الفتح: 28] فيظهره ظهورين ظهورا بالحجة والبيان والدلالة، وظهورا بالنظر والغلبة والتأييد، حتى يظهره على مخالفيه ويكون منصورا...
ومن شهادته أيضا: ما أودعه في قلوب عباده: من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه ووحيه...
فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته، بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك، وتدفعه الفطر والعقول السليمة، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة، التي لا تغذي، كالأبوال والأنتان. فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة به والسكون إليه، ومحبته. وفطرها على بغض الكذب والباطل، والنفور عنه، والريبة به. وعدم السكون إليه. ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه. ولما سكنت إلا إليه. ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن. فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأكملهم علما وعملا ومعرفة، كما قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24] فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية: من الفرح والألم، والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقا، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم...
وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية: الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم. فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته، واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به، وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة، كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق، فالحجة قامت بالرسل على الخلق، وهؤلاء نواب الرسل، وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد...
وقد فسرت شهادة أولي العلم: بالإقرار. وفسرت بالتبيين والإظهار. والصحيح: أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء لله على الناس يوم القيامة. قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 142] وقال تعالى: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78] فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا، ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم، لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة. فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة، وإقرارا ودعوة، وتعليما وإرشادا، فليس من شهداء الله. والله المستعان...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعدما بين تعالى جزاء المتقين وبين حالهم في إيمانهم ومدح أصنافهم الكاملين في أوصافهم، بين أصل الإيمان وأساسه فقال {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}... أما قوله تعالى: {قائما بالقسط} فمعناه أنه تعالى شهد هذه الشهادة قائما بالقسط وهو العدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة، فمن الأول تقرير العدل في الاعتقاد كالتوحيد الذي هو وسط بين التعطيل والشرك. ومن الثاني جعل سنن الخليقة في الأكوان والإنسان الدالة على حقية الاعتقاد قائمة على أساس العدل فمن نظر في هذه السنن ونظامها الدقيق يتجلى له عدل الله العام، فالقيام بالقسط على هذا من قبيل التنبيه إلى البرهان على صدق شهادته في الأنفس والآفاق لأن وحدة النظام في هذا العدل تدل على وحدة واضعه. وهذا مما يفند تفسير بعضهم للشهادة بأنها عبارة عن خلق ما يدل على الوحدانية من الآيات الكونية والنفسية. كذلك كانت أحكامه تعالى في العبادات والآداب والأعمال مبنية على أساس العدل بين القوى الروحية والبدنية وبين الناس بعضهم مع بعض. فقد أمر بذكره وشكره في الصلاة وغير الصلاة لترقية الروح وتزكيته، وأباح الطيبات والزينة لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في الدنيا وذلك عين العدل، فهذا هو القسط في العبادات والأعمال الدنيوية. وأما القسط في الآداب والأخلاق فهو صريح في القرآن كصراحة الأمر بالعدل في الأحكام قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 9] وقال: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. وإذ قد تجلى لك صدق الشهادة فعليك أن تقر بها قائلا {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} تفرد بالألوهية وكمال العزة والحكمة. فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ولا يخرج شيء منها عن مقتضى الحكمة البالغة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وأما شهادة الملائكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله، وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية خصوصا في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم. وفي هذه الآية دليل على شرف العلم من وجوه كثيرة، منها: أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه دون الناس، ومنها: أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلا، ومنها: أنه جعلهم أولي العلم، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتصفون بصفته، ومنها: أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها: أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه، ولما قرر توحيده قرر عدله، فقال: {قائمًا بالقسط} أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدره، ثم أعاد تقرير توحيده فقال {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} واعلم أن هذا الأصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الأدلة النقلية والأدلة العقلية، حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس، فأما الأدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله، من الأمر به وتقريره، ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم، وذم الشرك وأهله، فهو من الأدلة النقلية على ذلك، حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه، وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه -فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون، ومن الأدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم الزمان وحديثه، من الإكرام لأهل التوحيد، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلا إلى كل خير دافعا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة: {إن في ذلك لآية} أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، فهذه من الأدلة الكبار العقلية النقلية الدالة على هذا الأصل العظيم، وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها ونوعها ليحيى من حيي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد والشكر والثناء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد؛ توحيد الألوهية والقوامة، وتوحيد الكتاب والرسالة.. ويصور موقف المؤمنين حقا والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ، من آيات الله وكتابه.. ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر.. ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار؛ ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله.. فالآن -وإلى نهاية هذا الدرس- نجدنا أمام حقيقة أخرى.. هي مقتضى الحقيقة الأولى.. فحقيقة التوحيد تستلزم مصداقا لها في واقع الحياة البشرية، هو الذي يقرره الشطر الثاني من هذا الدرس. ومن ثم يبدأ بإعادة تقرير الحقيقة الأولى ليرتب عليها آثارها الملازمة لها.. يبدأ بشهادة الله -سبحانه- (أنه لا إله إلا هو) وشهادة الملائكة وأولي العلم بهذه الحقيقة. ويقرر معها صفة الله المتعلقة بالقوامة، وهي قيامه بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون. وما دام الله متفردا بالألوهية وبالقوامة فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله؛ واستسلام العبيد لإلههم، وطاعتهم للقيوم عليهم، واتباعهم لكتابه ولرسوله [ص]. ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام).. فهو لا يقبل دينا سواه من أحد.. الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع.. وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل؛ ولا مجرد تصديق في القلب. إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور.. هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله، وطاعتهم لما يحكم به، واتباعهم لرسوله في منهجه. وهكذا.. يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم.. إذ يدعون أنهم على دين الله. ثم (يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون)!!! مما ينقض دعوى التدين من الأساس. فلا دين يقبله الله إلا الإسلام. ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله، واتباع لمنهجه، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة.. ويكشف عن علة هذا الإعراض -الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله- فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية ""القسط ""في الجزاء يوم الحساب: (ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات).. معتمدين على أنهم أهل كتاب (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون).. وهو غرور خادع. فما هم بأهل كتاب، وما هم بمؤمنين أصلا. وما هم على دين الله إطلاقا؛ وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين.. فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة.. الدين:الإسلام. والإسلام: التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه.. فمن لم يفعل فليس له دين، وليس مسلما؛ وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله. فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعا في تعريفه وتحديده لأهواء البشر.. كل يحدده أو يعرفه كما يشاء! لا. بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء -والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله- (فليس من الله في شيء).. ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء.. مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله. ولو ادعوا أنهم على دين الله! ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه. ويضيف السياق إلى التحذير التبصير. تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود. فالله وحده هو السيد المتصرف، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء.. وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفا من التصريف لأمر الكون كله. فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.. وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد. ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعا في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تماما؛ ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير. كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة القوى، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة. ويختم الدرس بكلمة حاسمة قاطعة:إن الإسلام هو طاعة الله والرسول. وإن الطريق إلى الله هو طريق الأتباع للرسول. وليس مجرد الاعتقاد بالقلب، ولا الشهادة باللسان: (قل:إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله...) (قل:أطيعوا الله والرسول. فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين).. فإما طاعة واتباع يحبه الله، وإما كفر يكرهه الله.. وهذا هو مفرق الطريق الواضح المبين.."
فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال.. (شهد الله أنه لا إله إلا هو -والملائكة وأولوا العلم- قائما بالقسط. لا إله إلا هو العزيز الحكيم).. هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام. حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد القوامة.. القوامة بالقسط.. وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة. جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم...
وشهادة الله -سبحانه- أنه لا إله إلا هو.. هي حسب كل من يؤمن بالله.. وقد يقال: إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله. وأن من يؤمن بالله ليس في حاجة إلى هذه الشهادة.. ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابنا وشريكا. بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات! فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله -سبحانه- شهد أنه لا إله إلا هو، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم...
على أن الأمر -كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم- أعمق من هذا وأدق. فإن شهادة الله -سبحانه- بأنه لا إله إلا هو، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام -لا اعتقادا وشعورا فحسب- ولكن كذلك عملا وطاعة واتباعا للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب.. ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون: إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره.. فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله. ولا تستقيم مع شهادة الله -سبحانه- بأنه لا إله إلا هو...
وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها، والتلقي عن الله وحده، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال، متى ثبت لهم أنها من عنده. وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله: (والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا)..
فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة: تصديق. وطاعة. واتباع. واستسلام...
وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه -تعالى- قائم بالقسط. بوصفها حالة ملازمة للألوهية...
(شهد الله أنه لا إله إلا هو -والملائكة وأولوا العلم- قائما بالقسط).. فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة. وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. فهي قوامة بالقسط...
وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائما بالقسط -وهو العدل- فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر.. لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس، وبينه في كتابه. وإلا فلا قسط ولا عدل، ولا استقامة ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان. وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع!... وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك -بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية، والتأرجح بين هذا وذاك؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله، وحكم في حياة الناس كتاب الله. وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر، لازمه جهل البشر وقصور البشر. كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة. أو ظلم الجماعة للفرد. أو ظلم طبقة لطبقة. أو ظلم أمة لأمة. أو ظلم جيل لجيل.. وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء. وهو إله جميع العباد. وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. (لا إله إلا هو العزيز الحكيم).. يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة. والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط. فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها. وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية. فلا سلبية في التصور الإسلامي لله. وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه. وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله، فتصبح العقيدة مؤثرا حيا دافعا لا مجرد تصور فكري بارد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بيّن سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم، وصدق إيمانهم، وإذعان نفوسهم،وصبرهم وضبط شهواتهم؛ وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وأن الإسلام شريعة النبيين أجمعين،وهو دين الله المتين؛ وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال: {شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} الشهادة:الحضور،إما بالبصر، وإما بالبصيرة؛ ومن هذا المعنى قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم...28} [الحج] وقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين2} [النور] ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة، ثم أطلقت بمعنى العلم، وبمعنى الحكم؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وشهد شاهد من اهلها...26} [يوسف]...
{قائما بالقسط}: معناه أنه هو الواحد الأحد،الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان،وكل شيء في هذا الكون بمقدار،يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه،لا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطور الذي أعده الله سبحانه له،كما قال سبحانه: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم38} [يس] وهذا التعبير السامي {قائما بالقسط} فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو أنه وحده المستحق للعبادة، ما دام هو وحده القائم على كل شيء وفيه إشارة على مقام العبودية، وهو أنه لا يعبد سواه، فلا قوة لحد أو لشيء بجوار قدرة الله؛ فهو سبحانه الديان، والمجازي للخلق على ما يعملون،بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط،فإنه بحكم القسط لا يستوي الذين يعملون الخير، والذين يعملون الشر؛ ولهذا نقول: إن في هذه الجملة الكريمة {قائما بالقسط} إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب... {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة؛ منها:الإشارة إلى انه سبحانه وتعالى لا يترك الناس سدى،فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية، وقد شرع الشرائع بمقتضى حكمته، وهو يحميها بعزته وسلطانه؛ ولذا وصف سبحانه بأنه {العزيز الحكيم} أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس،ويشرع لهم الشرائع ويحميها؛ لأنه العزيز الحكيم. ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان. وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون ان لهم سلطانا، وما لحد عند رب العالمين من سلطان، فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء. وقبل أن نترك القول في هذه الآية الكريمة لا بد من أن نتكلم كلمة موجزة في أولى العلم؛ فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة،ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه، وشهادة ملائكته الأطهار؟ هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم. ونقول في الإجابة عنه: إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر 28] وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [آل عمران 7] ولذا نرى أن أول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا: {لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون} [الصف 2-3] وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال: {وأولوا العلم} أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية،ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية؛ فهاتان صفتان لازمتان أو هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان:...وقال فيهم:"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا". هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة.
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله. إذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول الحق: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة أن يقول:"كن" فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: "لا تكن". إن الحق لا بد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه. وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته:"أشهد أن محمدا رسول الله". ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق. إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة... إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة، والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت "لا إله إلا الله "صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو...
وتظل "لا إله إلا الله" لصاحبها -جل شأنه- "شهد الله أنه لا إله إلا هو" وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا.. لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي "لا إله إلا هو" يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط. ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} لماذا لم يقل الله إن "الملائكة" و "أولوا العلم"، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو" قائمين "بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية.. لماذا؟ لأن الله لو قال:"قائمين بالقسط "لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل...
لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن... إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم...
ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟... إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم. إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا. وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد... ولننظر إلى الآية في مجملها: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لقد استهلها الله بقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} ثم قال بعد ذلك: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة..." لا إله إلا هو". وما دام "لا إله إلا هو" فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف". فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن آمنت به وحده، فلك الفوز. وكلمة" وحده "قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشري، فيقال:"أنا لاجئ إلى فلان وحده "وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة" وحده "هنا تغنيك وتكفيك عن الكل. اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره. وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره، وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة ما يجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من" الحكمة "التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها" اللجام "وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح. إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع. إذن.. فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط. والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه:"قائما بالقسط "وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات. إذن.. فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه -سبحانه- لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم. لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان -وهو سبحانه الإله القادر- تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟ لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس -على سبيل المثال- بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره. إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا. وذلك هو العدل المطلق. لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا -الحق- أريدها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل. ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} مشتملا على التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون:"لا إله "وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين. هو إله موجود يا من تقول:"لا إله". وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار. لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان -وهو الإله القادر- تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج. لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر. إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.. نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن القرآن الكريم يواجه المنكرين الكافرين بالله بعدة أساليب في تقريره لحقيقة الوحدانية، فقد يتمثل ذلك في طريقة الاستدلال العقلي، وقد يتخذ أسلوب الدليل الاستقرائي الذي يدعو إلى السير في الأرض والتأمل في خلق الله، وقد يتمثل في الأسلوب الذي يوحي بها في مجال الإعلان بأنها الحقيقة الحاضرة التي تعبر عن نفسها من دون حاجةٍ إلى دليل، تماماً كما هي الأمور الحسيّة التي تثبت بالحسّ، كما في هذه الآية، التي تبدأ الموضوع بشهادة الله أنه الواحد الذي لا إله إلا هو في حضور الحقيقة في ذاته، وشهادة الملائكة في إدراكهم لعظمة الله من خلال منازل القرب إلى مواطن عظمته، وأولو العلم في ما يقودهم إليه العلم من الإحساس اليقيني بهذه الحقيقة...
وفي ذلك إيحاءٌ بأن المنكرين الذين لا يشهدون بهذه الحقيقة لا ينطلقون من علم، بل يتحركون في متاهات الجهل. والقيام بالقسط، وهو العدل، هو من لوازم الوحدانية التي توحي بالقوة المطلقة والغنى المطلق الذي يملك كل شيء، ولا يحتاج شيئاً، فكيف يمكن أن يظلم، والظلم هو عقدة الضعيف...
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهو الشاهد الأعظم الذي خلق الوجود المتحرك في كل حقائقه وتنوعاته، وهو الذي أعطاه مضمونه ومعناه، وهو الشاهد في ذاته من خلال حضور الذات في الذات، وهو الخالق للكون كله، والمطلع عليه في علمه بالنفي المطلق للشرك، ولا يملك النفي المطلق غيره، فإن المحدود لا يمكن أن يدرك إلا الواقع المحدود، فلا يجد سبيلاً إلى الحقيقة في دائرة النفي إلا من خلال العقل، لأنه لا يملك الحس الذي يشمل الوجود كله، ليعرف من خلاله أين يكون النفي حقيقة، وأين يقع الإثبات في موقعه التوحيدي، وهو الذي تنطلق شهادته في دائرة غناه الذاتي، فلا يحتاج إلى أن يعرفه أحد من خلقه، لتكون الشهادة وسيلة من وسائله الحيّة في الوصول، ذلك لأن معرفة خلقه له حاجة حيوية للإحساس بمعنى وجودهم، والانفتاح على مصدر القوة الذي هو مصدر الوجود في حياتهم...
وتلك هي الشهادة التي تمنح الحقيقة لكل مخلوق حيّ، فيحس بها في ذاتياته، حتى لتتحول في داخله إلى ما يشبه إحساس الذات بالذات في معنى الفطرة، وقد تحدّث البعض عن النزاع في أن الشهادة هي بالقول أو بالفعل، ونحن لا نرى في هذا الحديث فائدةً يتحرك النفي أو الإثبات نحوها، لأن الله أعطى الكلمة في الشهادة بتوحيده من خلال وحيه، كما أعطى الواقع الشهادة الحسية المتجسدة في الكون كله الناطقة في مضمون وجودها بأنه الله الذي لا إله إلا هو في معنى الفطرة الوجودية للكون كله، ولن تحتاج الكلمة إلى دليل في صدورها عنه، لأن معناها في داخل ذاتها، من حيث إن التوحيد هو حقيقة الوجود، فهو الذي يشهد للكلمة على صدقها، وليست هي التي تؤكد صدقه في معنى الحقيقة في ذاته...
{قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} حال من فاعل قوله: {شَهِدَ اللَّهُ} فقد شهد الله توحيد ذاته من خلال قيامه بالعدل الذي لا ينفصل عنه، لأن عدالته جزءٌ من معنى الألوهية، ومظهر لغناه عن عباده، فلا يظلمهم، لأن الظلم دليل فقر وضعف، وهكذا كان قيامه بالقسط في النظام الكوني بكل وجوداته، لأنه أعطى كل موجود حقه بما منحه إياه من حاجته، فكان الوجود كله في وعيه الذاتي الوجودي لربه مظهراً حيّاً للشهادة الكونية بتوحيده، ولعل التركيز على القيام بالعدل، في موقع انطلاقة الشهادة، يوحي بأن علاقة الله بالكون في وجوده الحي والجامد، ليست علاقة سيطرة في معنى الذات كما هي علاقة المخلوق القوي بالمخلوق الضعيف، بل هي علاقة العدالة المرتبطة بالخالقية من موقع الرحمة، ما جعل عدالته مظهر رحمته، كما هي في العمق مظهر قوته وغناه. {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهذه هي الحقيقة التي لا بد للإنسان من أن يؤكدها في نفسه لتملأ عقيدته كل وجوده، تماماً كما تؤكد نفسها في كل موقع من مواقع الكون {الْعَزِيزُ} الذي لا ينتقص أحد من قدرته وقوته {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعطي لكل واحدٍ منها موقعها ودورها في حركة النظام الكوني كله...