الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

قوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ } : العامةُ على " شَهِدَ " فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ ، والجلالةُ الكريمةُ رفعٌ بهِ . وقرأ أبو الشعثاء : " شُهِدَ " مبيناً للمفعول ، والجلالةُ المعظمةُ قائمةٌ مقامَ الفاعلِ ، وعلى هذه القراءةِ ، فيكونُ { أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } في محلِّ رفع بدلاً من اسمِ اللهِ تعالى بدلَ اشتمالٍ ، تقديرهُ : شَهِدَ وحدانيةَ اللهِ وألوهيتَه ، ولمَّا كان المعنى على هذه القراءةِ كذا أَشْكَل عَطْفُ { وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } على الجلالةِ الكريمة ، فَخُرِّج ذلك على عَدَمِ العطف ، بل : إمَّا على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليه تقديرُه : والملائكةُ وأولو العلمِ يَشهدون بذلك ، يَدُلُّ عليه قولُه تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ } ، وإمَّا على الفاعليةِ بإضمارِ محذوفٍ ، تقديرُه : وشَهِدَ الملائكةُ وأولو العلم بذلك ، وهو قريبٌ من قولهِ تعالى : { يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بِالْغَدوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 ] في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول ، وقوله :

لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في أحد الوجهين .

وقرأ أبو المهلب عمُّ محارب بن دثار : " شهداءَ الله " جمعاً على فُعَلاء كظُرَفاء منصوباً ، ورُوي عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك ، إلا أنه مرفوع ، وفي كِلتا القراءتين مضافٌ للجلالة . فأمَّا النصبُ فعلى الحال ، وصاحبُها هو الضميرُ المستتر في " المستغفرين " قاله ابن جني ، وتَبِعَه غيرُه كالزمخشري وأبي البقاء . وأمَّا الرفعُ فعلى إضمارِ مبتدأ ، أي : هم شهداءُ الله . و " شهداء " يَحْتمل أن يكونَ جمع شاهد كشاعِر وشُعَراء ، وأَنْ يكونَ جمعَ شهيد كظريف وظُرَفاء .

وقرأ أبو المهلب أيضاً في رواية : " شُهُداً اللهَ " بضم الشين والهاء والتنوين ونصبِ الجلالةِ المعظمةِ ، وهو منصوبٌ على الحالِ ، جمع شهيد نحو : نَذِير ونُذُر ، واسمُ اللهِ منصوبٌ على التعظيم أي : يَشْهدون اللهَ أي : وحدانيتَه .

ورَوى النقاش أنه قُرىء كذلك ، إلا أنه قال : " برفعِ الدال ونصبها " والإِضافةُ للجلالةِ المعظمة . فالنصبُ والرفعُ على ما تقدَّم في " شهداء " ، وأما الإِضافةُ فتحتملُ أنْ تكونَ محضةً ، بمعنى أنك عَرَّفْتهم بإضافتِهم إليه من غير تَعَرُّضٍ لحدوثِ فِعْلٍ ، كقولك : عباد الله ، وأَنْ تكونَ مِنْ نصبٍ كالقراءةِ قبلَها فتكونَ غيرَ محضةٍ . وقد نقل الزمخشري أنه قُرىء : " شُهَداء لله " جَمْعاً على فُعَلاء وزيادةِ لامِ جر داخلةً على اسمِ اللهِ ، وفي الهمزةِ الرفعُ والنصبُ وخَرَّجهما على ما تقدَّم من الحالِ والخبر .

وعلى هذه القراءاتِ كلِّها ففي رفعِ " الملائكة " وما بعدَها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها الابتداءُ ، والخبرُ محذوفٌ . والثاني : أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ وقد تَقدَّم تحريرُها . الثالث ذَكَره الزمخشري : وهو النسقُ على الضمير المستكنِّ في " شهداء الله " قال : " وجاز ذلك لوقوعِ الفاصلِ بينهما " .

قوله : " أنه " العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ ، وإنما فُتِحَتْ لأنها على حَذْفِ حرفِ ، الجر ، أي : شَهِدَ الله بأنه لا إله إلا هو ، فَلَّما حُذِفَ الحرفُ جازَ أن يكونَ محلُّها نصباً وأن يكونَ محلُّها جَرَّاً كما تقدَّم تقديره .

وقرأ ابن عباس : " إنه " بكسرِ الهمزةِ ، وفيها تخريجان ، أحدُهما : إجراءُ " شَهِدَ " مُجْرى القولِ لأنه بمعناه ، وكذَا وقَعَ في التفسير : شَهِد الله أي : قال الله ، ويؤيِّده ما نَقَله المؤرِّج أن " شَهِد " بمعنى " قال " لغةُ قيس بن عيلان . والثاني : أنها جملةُ اعتراضٍ بين العامل وهو شهد وبين معمولهِ وهو قولُه { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ، وجازَ ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيدِ وتقويةِ المعنى ، وهذا إنما يتجه على قراءةِ فَتْحِ " أَنَّ " من " أنَّ الدينَ " ، وأمَّا على قراءةِ الكسرِ فلا يجوزُ ، فيتعيَّنُ الوجهُ الأولُ .

والضميرُ في " أنه " يَحْتمل العَوْدَ على الباري لتقدُّمِ ذكرهِ ، ويَحْتمل أن يكونَ ضميرَ الأمر ، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله : { شَهِدَ الله أَنْ لا إلهَ إلا هو } فأَنْ مخففةٌ في هذه القراءةِ ، والمخففةُ لا تعملُ إلاَّ في ضميرِ الشأنِ ويُحْذَفُ حينئذٍ ، ولا تَعْمَلُ في غيرِه إلا ضرورةً .

وأَدْغم أبو عمرو بخلافٍ عنه واو " هو " في واوِ النسق بعدها وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألةِ في البقرة عند قوله : { هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }

[ الآية : 249 ] .

قوله : { قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ } في نصبِه أربعةُ أوجه أحدُها : أنه منصوبٌ على الحالِ ، واختلف القائلُ بذلك : فبعضُهم جَعَلَه حالاً من اسمِ الله ، فالعاملُ فيها " شَهِدَ " . قال الزمخشري : " وانتصابهُ على أنَه حالٌ مؤكِّدةٌ منه كقوله تعالى : { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً } . قال الشيخ : " وليس من بابِ الحالِ المؤكدةِ لأنه ليس من باب : { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] ولا من باب " أنا عبدُ الله شجاعاً " فليس " قائماً بالقسط " بمعنى شَهِد ، وليس مؤكداً لمضمونِ الجملةِ السابقةِ في نحو : أنا عبدُ الله شجاعاً وهو زيدٌ شجاعاً ، لكنْ في هذا التخريجَ قَلَقٌ في التركيبِ ، إذ يصير كقولك : " أَكلَ زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً " فَيَفْصِل بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ بالمفعول ، وبين الحالِ وذي الحال بالمفعولِ والمعطوفِ ، لكنْ بمشيئةِ كونِها كلِّها معمولةً لعاملٍ واحدٍ " . انتهى .

قلت : مؤاخَذَتُهُ له في قولِهِ : " مؤكدةٌ " غيرُ ظاهرٍ ، وذلك أنَّ الحالَ على قسمين : إمَّا مؤكدةٌ وإمَّا مُبَيِّنة ، وهي الأصلُ ، فالمُبَيِّنَةُ لا جائزٌ أن تكونَ ههنا ، لأنَّ المبيِّنة تكونُ متنقلةً ، والانتقالُ هنا مُحالٌ ، إذ عَدْلُ اللهِ تعالى لا يتغيَّرُ ، فإنْ قيل لنا قسمٌ ثالثٌ ، وهي الحالُ اللازمةُ فكانَ للزمخشري مندوحةٌ عن قوله " مؤكدة " ألى قوله " لازمةٌ " فالجوابُ أنَّ كلَّ مؤكدةٍ لازمةٌ وكلَّ لازمةٍ مؤكدةٌ فلا فرقَ بين العبارتين ، وإنْ كان الشيخُ زَعَم أنَّ إصلاحَ العبارةِ يَحْصُل بقولِه : " لازمة " ، ويَدُلُّ على ما ذكرتْهُ من ملازَمَةٍِ التأكيدِ للحالِ اللازمةِ وبالعكس الاستقراءُ .

وقولُه : " ليس معنى قائماً بالقسط معنى شهد " ممنوعٌ بل معنى " شَهِد " مع متعلَّقهِ وهو أنه لا إله إلا هو مساوٍ لقولِه " قائماً بالقسط " لانَّ التوحيدَ ملازمٌ للعدلِ .

ثم قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ جاز إفرادهُ بنصبِ الحالِ دون المعطوفَيْنِ عليه ، ولو قلت : " جاءني زيدٌ وعمرو راكباً " لم يَجُزْ ؟ قلت : إنما جازَ هذا لعدمِ الإِلباسِ كما جاز في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] إن انتصب " نافلةً " حالاً عن " يعقوب " ولو قُلْتَ : " جاءني زيدٌ وهند راكباً " جاز لتميُّزِه بالذُّكورة .

قال الشيخ : " وما ذَكَره مِنْ قوله : " جاءني زيدٌ وعمروٌ راكباً " أنه لا يجوزُ ليس كما ذَكَر ، بل هذا جائزٌ لأنَّ الحالَ قَيْدٌ فيمن وَقَعَ منه أو به الفعلُ أو ما أشبهَ ذلك ، وإذا كان قيداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكورٍ ، ويكون " راكباً " حالاً مِمَّا يَليه ، ولا فرقَ في ذلك بين الحالِ والصفِة ، لو قلت : " جاءني زيدٌ وعمروٌ الطويلُ " كان " الطويلُ " صفةً لعمرو ، ولا تقولُ : لا تجوزُ هذه المسألةُ لِلَّبْس ، إذ لا لَبْسَ في هذا وهو جائزٌ ، وكذلك الحالِ . وأمَّا قولُه : " إنَّ نافلةً " انتصَب حالاً عن يعقوب " فلا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ حالاً عن يعقوب ؛ إذ يُحتمل أَنْ يكونَ " نافلةً " مصدراً كالعاقبة والعافِية ، ومعناه : زيادة ، فيكونُ ذلك شاملاً لإِسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإِبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره " قلت : مرادُ الزمخشري بمنع " جاءني زيد وعمرو راكبا " إذ أُريد أَنَّ الحالََ منهما معاً ، أمَّا إذا أريد أنها حالٌ من واحدٍ منهما فإنَّما تُجْعَلُ لِما تليه ، لعودِ الضميرِ على أَقْربِ مذكور ، وبعضُهم جَعَلَه حالاً من " هو " قال الزمخشري : " فإنْ قلت : قد جَعَلْتَه حالاً من فاعل " شَهِدَ " فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ حالاً عن " هو " في " لا إله إلا هو " ؟ قلت : نَعَمْ لأنها حالٌ مؤكدةٌ ، والحالُ المؤكدةُ لا تَسْتَدْعي أن يكونَ في الجملةِ التي هي زيادةٌ في فائدتِها عاملٌ فيها كقولك :

" أنا عبدُ الله شجاعاً " انتهى . يعني أنَّ الحالَ المؤكِّدَة لا يَكونُ العاملُ فيها النصبَ شيئاً من الجملةِ السابقةِ قبلَها ، إنما ينتصبُ بعاملٍ مضمرٍ ، فإنْ كان المتكلمُ مُخْبِراً عن نفسه نحو : " أنا عبدُ الله شجاعاً " قَدَّرْتَه : أُحقُّ شجاعاً ، مبنياً للمفعول ، وإنْ كان مُخْبِراً عن غيره قَدَّرْتَه مبنياً للفاعل نحو : " هذا عبدُ الله شجاعاً " أي : أَحُقُّه ، هذا هو المذهبُ المشهورُ في نصبِ مثلِ هذه الحالِ .

وفي المسألةِ قولٌ ثانٍ لأبي إسحاق أنَّ العاملَ فيها هو خبرُ المبتدأ لِما ضُمِّنَ من معنى المشتقِ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى . وقولٌ ثالثٌ : أنَّ العاملَ فيها المبتدأ لِما ضُمِّن مِنْ معنى التنبيه ، وهي مسألةٌ طويلةٌ . وبعضُهم جَعَلَه حالاً من الجميع على اعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ قائماً بالقسط ، وهذا مناقضٌ لِما قاله الزمخشري من أنَّ الحالَ مختصةٌ باللهِ تعالى دونَ ما عُطِف عليه . وهذا المذهبُ مردودٌ بأنه لو جازَ ذلك لجازَ " جاء القومُ راكباً " أي : كلُّ واحدٍ منهم راكباً ، والعربُ لا تقولُ ذلك البتَة ، فَفَسَدَ هذا ، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في صاحبِ الحال .

الوجهُ الثاني من أوجهِ نصبِ " قائماً " نصبُه على النعتِ للمنفيِّ بلا ، كأنه قيل : لا إلَه قائماً بالقسطِ إلا هو . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : هَلْي يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسطِ إلا هو ؟ قلت : لا يَبْعُدُ ، فقد رَأَيْناهم يَتَّسِعون في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ " ثم قال : " وهو أَوْجَهُ مِن انتصابهِ عن فاعلِ " شَهِد " ، وكذلك انتصابُه على المَدْح " .

قال الشيخ : وكان الزمخشري قد مَثَّل في الفصلِ بين الصفةِ والموصوفِ بقولِه : " لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً قال : " وهذا الذي ذَكَره لا يجوزُ لأنه فَصَلَ بين الصفةِ والموصوفِ بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما " والملائكةُ وأولوا العلم " وليسا معمولَيْنِ لشيءٍ من جملةِ " لا إله إلا هو " بل هما معمولان لشَهِدَ ، وهو نظيرُ : " عَرَفَ زيدٌ أنَّ هنداً خارجةٌ وعمروٌ وجعفرٌ التميمية " فَيُفْصَلُ بين " هند والتميمية " بأجنبي ليس داخلاً في حَيِّز ما عمل فيها ، وذل الأجنبيُّ هو " وعمرو وجعفر " المرفوعان المعطوفان على " زيد " . وأمَّا المثالُ الذي مَثَّل به وهو " لا رجلَ إلا عبدُ الله شجاعاً " فليس نظيرَ تخريجِهِ في الآية ، لأنَّ قولَك " إلا عبدُ الله " بدلُ على الموضعِ من " لا رجلَ " فهو تابعٌ على الموضعِ ، فليس بأجنبي ، على أَنَّ في جوازِ هذه التركيبِ نظراً ، لأنه بدلٌ و " شجاعاً " وصفٌ ، والقاعدةُ أنه إذا اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ ؛ وسَببُ ذلك أنه على نية تكرارِ العامل على الصحيح ، فصار من جملة أخرى على هذا المذهب " .

الوجهُ الثالثُ : نصبُه على المدحِ . قال الزمخشري : " فإن قلت : أليس من حقِّ المنتصبِ على المدح أن يكونَ معرفةً ، كقولك : " الحمدُ لله الحميدَ " " إنَّا معاشرَ الأنبياء لا نُورَث " .

[ وقوله ] :

إنا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعي لأبٍ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت قد جاء نكرة كما جاء معرفة ، وأنشد سيبويه ممَّا جاءَ منه نكرةً قول الهذلي :

ويَأْوِي إلى نَسْوةٍ عُطَّّلٍ *** وشُعْثَاً مَراضيعَ مثلَ السَّعالِي

انتهى .

قال الشيخ : " انتهى هذا السؤال وجوابُه ، وفي ذلك تخليط ، وذلك أنه لم يُفَرِّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم ، وبين المنصوبِ على الاختصاص ، وجَعَل حكمَهما واحداً ، وأوردَ مثالاً من المنصوب على المدح وهو : " الحمدُ لله الحميدَ " ومثالين من المنصوبِ على الاختصاص وهما : " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " " إنا بني نهشل لا نَدَّعي لأب " . والذي ذَكَره النحويون أنَّ المنصوبَ على المدحِ أو الذم أو الترحم قد يكونُ معرفةً ، وقبله معرفةٌ تَصْلُح أن يكونَ تابعاً لها وقد لا تَصْلَحُ ، وقد يكونُ نكرةً كذلك ، وقد يكونُ نكرة وقبلها معرفةٌ فلا يصلُحُ أن يكونَ نعتاً لها ، نحو قول النابغة :

أََقارعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها *** وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تجادِعُ

فنصب " وجوه قرود " على الذَّمِّ وقبْلَه معرفةٌ وهي " أقارع عوفٍ " ، وأمَّا المنصوبُ على الاختصاص/ فنصُّوا على أنه لا يكون نكرةً ولا مُبْهماً ، ولا يكونُ إلا معرفاً بالألف واللامِ أو بالإِضافةِ أو بالعلميةِ أو لفظِ " أي " ، ولا يكونُ إلا بعد ضمير مختص به أو مشاركٍ فيه ، وربما أتى بعد ضميرِ مخاطبٍ " . قلت : إنما أراد الزمخشري بالمنصوبِ على الاختصاصِ المنصوبَ على إضمارِ فعلٍ لائقٍ ، سواءً كان من الاختصاصِ المبوَّبِ له في النحو أم لا ، وهذا اصطلاحُ أهْلِ المعاني والبيان ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك غيرَ مرة .

الوجه الرابع : نَصْبُه على القطع أي : إنه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يَرْتفع نعتاً لله تعالى بعد تعريفِهِ بأل ، والأصل : شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط ، فلما نُكِّر امتنع إتباعُهُ فَقُطِعَ إلى النصب . وهذا مذهبُ الكوفيين ، ونَقَلَهُ بعضُهم عن الفراء وحدَه ، ومنه عندَهم قولُ امرىء القيس :

1205 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعالَيْن قِنْوَاناً من البُسْر أحمرا

الأصل : من البسر الأحمر ، وقد تقدَّم ذلك محققاً . ويؤيد هذا الذاهبَ قراءةُ عبد الله " القائم بالقسط " برفع " القائم " تابعاً للجلالة . وخَرَّجه الزمخشري وغيرُهُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوف تقديره : هو القائمُ ، [ أو بدلاً من هو ] " . قال الشيخ : " ولا يجوزُ ذلك لأنَّ فيه فصلاً بين البدلِ والمبدلِ منه بأجنبي ، وهو المعطوفان ، لأنهما معمولان لغيرِ العاملِ في المبدلِ منه ، ولو كان العاملُ في المعطوفِ هو العاملَ في المبدلَ منه لم يَجْزُ ذلك أيضاً ؛ لأنه إذا اجتمع العطفُ والبدلُ قُدِّم البدلُ على العطف ، لو قلت : " جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك " لم يَجُزْ ، إنما الكلامُ جاء زيدٌ أخوكَ وعائشةُ " .

فتحصَّل في رفع " القائم " على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه : النعتُ والبدلُ وخبرُ مبتدأٍ محذوفٍ . ونُقِلَ عن عبد الله أيضاً أنه قرأ : " قائمٌ بالقسط " بالتنكير ، ورفعُه من وجهي البدل وخبر المبتدأ .

وقرأ أبو حنيفة : " قَيِّماً " بالنصبِ على ما تقدَّم . فهذه أربعةُ أوجه حَرَّرَتْها من كلام القوم .

والظاهر أن رفع " الملائكةُ " وما بعدَهُ عطفٌ على الجلالة المعظمة . وقال بعضُهم : " الكلامُ تَمَّ عند قولِهِ : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وارتفَعَ " الملائكة " بفعل مضمرٍ تقديرُهُ : وشَهِدَ الملائكة وأولو العلم بذلك " وكأنَّ هذا الذاهبَ يرى أنَّ شهادة اللهِ مغايرةٌ لشهادة الملائكة وأولي العلم ، ولا يُجِيزُ إعمال المشترك في معنييه فاحتاجَ من أجلِ ذلك إلى إضمارِ فعلٍ يُوافِقُ هذا المنطوقَ لفظاً ويخالِفُهُ معنى ، وهذا يَجِيءُ نظيرُهُ في قوله تعالى :

{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : هل دَخَلَ قيامُه بالقسط في حكمِ شهادةِ الله والملائكة وأولي العلم كما دَخَلَتْ الوحدانيةُ ؟ قلت : نعم إذا جعلتَهُ حالاً من " هو " أو نصباً على المدحِ منه ، أو صفةً للمنفي ، كأنه قيل : شَهِدَ الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط " .

قوله : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها مكررةٌ للتوكيد . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ كَرَّر قولَه { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : ذَكَرَه أولاً للدلالةِ على اختصاصِهِ بالوحدانيةِ ، وأنه لا إله إلا تلك الذاتُ المتميِّزَة ، ثم ذَكَرَهُ ثانياً بعد ما قَرَن بإثباتِ الوحدانية إثبات العدل للدلالةِ على اختصاصِهِ بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هو الموصوفُ بالصفتين ، ولذلك قَرَنَ به قولَه : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } لتضمُّنِها معنى الوحدانية والعدل " .

وقال بعضُهم : " ليس بتكريرٍ ؛ لأنَّ الأولَ شهادةُ الله تعالى وحدَه ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم " ، وهذا كما تقدَّم عند مَنْ يرفع " الملائكة " بفعلٍ آخرَ مضمرٍ لِمَا ذكرتُهُ من أنه لا يرى إعمالَ المشترك ، وأن الشهادتين متغايرتان ، وهو مذهبٌ مرجوح . وقال الراغب : " إنما كرَّر لا إله إلا هو لأنَّ صفات التنزيهِ أشرفُ مِنْ صفاتِ التمجيد ، لأنَّ أكثرَها مشاركٌ في ألفاظِها العبيدُ فيصِحُّ وَصْفُهم بها ، ولذلك وَرَدَتْ ألفاظُ التنزيهِ في حَقِّه أكثرَ وأَبْلَغَ " .

قوله : { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ من " هو " . الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ . الثالث : أنه نعتٌ ل " هو " ، وهذا إنَّما يتمَشَّى على مذهبِ الكسائي ، فإنه يرى وصفَ الضمير الغائب ، ويتقدَّم نحو هذا في قوله : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] .