غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (18)

12

قال الكلبي : لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان ! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا : أنت محمد ؟ قال : نعم . قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم . قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني . قالا : أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه { شهد الله أنه لا إله إلا هو } فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله : { ربنا إننا آمنا } ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية .

واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك .

أما الأول فتقريره من وجهين : أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم . أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، التمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بها . وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة ، فكلهم أخبروا أيضاً أن الله واحد لا شريك له . وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان . فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك ، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه . أيضاً الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق . فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان . فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل ، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك ، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام .

وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى :{ إن الله وملائكته يصلون على النبي }[ الأحزاب : 56 ] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة . فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله . فكيف يكون المدعي شاهداً ؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية ، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال :{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله }[ الأنعام : 19 ] .

وفي انتصاب { قائماً بالقسط } وجوه :

الأول أنه حال مؤكدة والتقدير : شهد الله قائماً بالقسط ، أو لا إله إلا هو قائماً بالقسط . وهذا وجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضياً للعدالة مثل : هذا أبوك عطوفاً . أو لا رجل إلا عبد الله شجاعاً . ويحتمل أن يكون حالاً من " أولي العلم " أي حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة .

الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو . وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف .

الثالث أن يكون نصباً على المدح وإن كان نكرة كقوله :

ويأوي إلى نسوة عطل*** وشعثاً مراضيع مثل السعالى

ومعنى كونه قائماً بالقسط قائماً بالعدل كما يقال : فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سن الاستقامة ، أو مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآحال ، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه إلى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا . ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموماً أو خصوصاً . فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح ، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادئ والغايات ، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم ، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب . ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة ، فكلها حكمة وعدالة . وانظر إلى تفاوت الخلائق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعداً لإدراك تفاصيل كلمات الله . فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علماً إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء . فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد . ومن زعم أن شيئاً من الأشياء خيراً أو شراً في اعتقاده حسناً أو قبيحاً بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادراً آخر أو خالقاً غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو ، فلهذا كرر مضمون الشهادة وقال : { لا إله إلا هو } والتقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو .

وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو كقولك : الدليل دل على وحدانية الله ، ومتى كان كذلك فقد صح القول بوحدانية الله . وفيه إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم { لا إله إلا هو } وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه .

هو المسك ما كررته يتضوّع *** . . .

ثم أكد كونه منفرداً بالألوهية وقائماً بالعدل بقوله : { العزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم . ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال ، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال .

/خ25