قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } .
اعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله { الذين يقولون ربنا إننا ءامنا } [ آل عمران : 16 ] أردفه بأن بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية ، فقال : { شهد الله } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على العلم به ، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، لكن العلم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحدا فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحدا بمجرد الدلائل السمعية القرآنية .
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في قوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } قولين : أحدهما : أن الشهادة من الله تعالى ، ومن الملائكة ، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني : أنه ليس كذلك ، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحدا لا إله معه ، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز ، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضا أن الله تعالى واحد لا شريك له ، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم .
الوجه الثاني : أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ، ثم نقول : إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك ، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك ، وبينوه بتقرير الدلائل والبراهين ، أما الملائكة فقد بينوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام ، والرسل للعلماء ، والعلماء لعامة الخلق ، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان ، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى ، وفي حق أولي العلم ، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين ، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى ، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم ، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام .
القول الثاني : قول من يقول : شهادة الله تعالى على توحيده ، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة ، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ، ونظيره قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } [ الأحزاب : 56 ] ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس ، مع أنه قد جمعهم في اللفظ .
فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهدا ؟ .
الجواب : من وجوه الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله ، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] .
الوجه الثاني : في الجواب أنه هو الموجود أزلا وأبدا ، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا ، ونفيا محضا ، والعدم يشبه الغائب ، والموجود يشبه الحاضر ، فكل ما سواه فقد كان غائبا ، وبشهادة الحق صار شاهدا ، فكان الحق شاهدا عل الكل ، فلهذا قال : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } .
الوجه الثالث : أن هذا وإن كان في صورة الشهادة ، إلا أنه في معنى الإقرار ، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه ، كان الكل عبيدا له ، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد ، فكان هذا الكلام جاريا مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق .
الوجه الرابع : في الجواب قرأ ابن عباس { شهد الله أنه لا إله إلا هو } بكسر { إنه } ثم قرأ { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] بفتح { أن } فعلى هذا يكون المعنى : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله { أنه لا إله إلا هو } اعتراضا في الكلام ، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه ، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء ، وبتقدير { أن } تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها ، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى .
المسألة الثانية : المراد من { أولى العلم } في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « إذا علمت مثل الشمس فاشهد » وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول .
أما قوله تعالى : { قائما بالقسط } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : { قائما بالقسط } منتصب ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : نصب على الحال ، ثم فيه وجوه أحدها : التقدير : شهد الله قائما بالقسط وثانيها : يجوز أن يكون حالا من هو تقديره : لا إله إلا هو قائما بالقسط ، ويسمى هذا حالا مؤكدة كقولك : أتانا عبد الله شجاعا ، وكقولك : لا رجل إلا عبد الله شجاعا .
الوجه الثاني : أن يكون صفة المنفي ، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو ، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف .
والوجه الثالث : أن يكون نصبا على المدح .
فإن قيل : أليس من حق المدح أن يكون معرفة ، كقولك ، الحمد لله الحميد .
قلنا : وقد جاء نكرة أيضا ، وأنشد سيبويه :
ويأوي إلى نسوة عطل *** وشعثا مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية : قوله { قائما بالقسط } فيه وجهان الأول : أنه حال من المؤمنين والتقدير : وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من { شهد الله } .
المسألة الثالثة : معنى كونه { قائما بالقسط } قائما بالعدل ، كما يقال : فلان قائم بالتدبير ، أي يجريه على الاستقامة .
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين ، أما المتصل بالدين ، فانظر أولا في كيفية خلقة أعضاء الإنسان ، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب ، أما ما يتصل بأمر الدين ، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، ولقد خاض صاحب «الكشاف » ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وكان ذلك المسكين بعيدا عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف ، وزعم أن الآية دلت على أن من أجاز الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئيا لكان جسما ، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع ، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك ، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه ، لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات ، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلا ، فقد اعترف بهذا الجبر ، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث .
ثم قال الله تعالى : { لا إله إلا هو } والفائدة في إعادته وجوه الأول : أن تقدير الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو ، ونظيره قول من يقول : الدليل دل على وحدانية الله تعالى ، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني : أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير ، كأنه قال : يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لا إله إلا هو فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث : فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلا بذكرها وبتكريرها كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات ، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع : ذكر قوله { لا إله إلا هو } أولا : ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى ، وذكرها ثانيا : ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم .
أما قوله { العزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما لأن كونه قائما بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات ، وكان قادرا على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر ، لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الاستدلالية ، فلما كان مقدما في المعرفة الاستدلالية ، وكان هذا الخطاب مع المستدلين ، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم .