التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (51)

جملة { قال ما خطبكن } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالاً في نفس السامع عما حصل من المَلِك لَمّا أُبلغ إليه اقتراح يوسف عليه السّلام مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه ، أي قال الملك للنسوة .

ووقوع هذا بعد جملة { ارجع إلى ربك } [ سورة يوسف : 50 ] إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف ، تقديره : فرجع فأخبر الملك فأحضر الملكُ النسوة اللائي كانت جمعتْهن امرأةُ العزيز لمّا أعتدت لهنّ مُتّكَأ فقال لهن : ما خطبكن } إلى آخره .

واسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين ، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظَنا أن المراودة وقعت في مجلس المتّكأ .

والخطب : الشأن المهم من حالة أو حادثة . قيل : سمي خطباً لأنه يقتضي أن يخاطِب المرء صاحبه بالتساؤل عنه . وقيل : هو مأخوذ من الخُطبة ، أي يُخطب فيه ، وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم ، فأصله مصدر بمعنى المفعول ، أي مخطوب فيه .

وجملة { قلن } مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز ، بقرينة قوله بعد : { قالت امرأة العزيز } .

و { حاش لله } مبالغة في النفي والتنزيه . والمقصود : التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة . وقد تقدم تفسيرها آنفاً واختلاف القراء فيها .

وجملة { ما علمنا عليه من سوء } مبينة لإجمال النفي الذي في { حاش لله } . وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء .

ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوماً عندهن ، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ، خشيةً منها ، أو مودّةً لها ، فاقتصرن على جواب ما سُئلن عنه .

وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللاتي أحضرهن الملك . ولم يشملها قول يوسف عليه السّلام : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } [ سورة يوسف : 5 ] لأنها لم تقطّعْ يدها معهن ، ولكن شملها كلام الملك إذ قال : إذ راودتن يوسف عن نفسه } فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدّت لهن متكئاً ، ففي الكلام إيجاز حذف .

وجملة { قالت امرأة العزيز } مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك .

والآن : ظرف للزمان الحاضر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم } في سورة الأنفال ( 66 ) .

و { حصحص } : ثبت واستقر .

و { الحق } : هو براءة يوسف عليه السّلام مما رمته به امرأة العزيز ، وإنما ثبت حينئذٍ لأنه كان محل قيل وقال وشك ، فزال ذلك باعترافها بما وقع .

والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي .

ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة { ما علمنا عليه من سوء } فيكون الماضي على حقيقته . وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص ، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمنَ باطل وهو زمن تهمة يوسف عليه السّلام بالمراودة ، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقتُ الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف عليه السّلام أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة .

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة { أنا راودته } للقصر ، لإبطال أن يكون النسوة راودنه . فهذا إقرار منها على نفسها ، وشهادة لغيرها بالبراءة ، وزادت فأكدت صدقه ب ( إن ) واللام .

وصيغة { من الصادقين } كما تقدم في نظائرها ، منها قوله تعالى : { قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .