قوله تعالى : " وقال الملك ائتوني به " أي فذهب الرسول فأخبر الملك ، فقال : ائتوني به . " فلما جاءه الرسول " أي يأمره بالخروج . " قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة " أي حال النسوة . " فاسأله ما بال النسوة " ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح ، وذلك حسن عشرة وأدب ، وفي الكلام محذوف ، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة . " اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم " فأبى أن يخرج إلا أن تصح براءته عند{[9151]} الملك مما قذف به ، وأنه حبس بلا جرم . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم [ ابن الكريم ]{[9152]} يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - قال - ولو لبث في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت - ثم قرأ - " فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي يقطعن أيديهن " - قال - ورحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد [ إذ قال " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ]{[9153]} فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه ) . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق من إبراهيم إذ قال له " أو لم تؤمن قال بلى ولكني ليطمئن قلبي " [ البقرة : 260 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( يرحم الله أخي يوسف لقد كان صابرا حليما ولو لبثت في السجن ما لبثه أجبت الداعي ولم ألتمس العذر ) . وروي نحو هذا الحديث من طريق{[9154]} عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك ، في كتاب التفسير من صحيح البخاري ، وليس لابن القاسم في الديوان غيره . وفي رواية الطبري ( يرحم الله يوسف لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا أن كان لحليما ذا أناة ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني ، ولقد عجبت منه حين آتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ){[9155]} . قال ابن عطية : كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا ، وطلبا لبراءة الساحة ، وذلك أنه - فيما روي - خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون : هذا الذي راود امرأة مولاه ، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ، ويحقق منزلته من العفة والخير ، وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة ، فلهذا قال للرسول : ارجع إلى ربك وقل له ما بال النسوة ، ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان : وقل له يستقصي عن ذنبي ، وينظر في أمري هل سجنت بحق أو بظلم ، ونَكَب عن امرأة العزيز حسن عشرة ، ورعاية لذمام الملك العزيز له . فإن قيل : كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج ، ثم هو يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره ؟ فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي ، له جهة أيضا من الجودة ، يقول : لو كنت أنا لبادرت بالخروج ، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك ، وذلك أن هذه القصص والنوازل هي معرضة لأن يقتدي الناس بها إلى يوم القيامة ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور ؛ وذلك أن تارك الحزم في مثل هذه النازلة ، التاركَ فرصة الخروج من مثل ذلك السجن ، ربما نتج له البقاء في سجنه ، وانصرفت نفس مخرجه عنه ، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله ، فغيره من الناس لا يأمن ذلك ، فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد .
قوله تعالى : " فاسأله ما بال النسوة " ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح حتى لا يقع عليها تصريح ، وذلك حسن عشرة وأدب ، وفي الكلام محذوف ، أي فاسأله أن يتعرف ما بال النسوة . قال ابن عباس : فأرسل الملك إلى النسوة وإلى امرأة العزيز - وكان قد مات العزيز فدعاهن ف " قال ما خطبكن " أي ما شأنكن . " إذ راودتن يوسف عن نفسه " وذلك أن كل واحدة منهن كلمت يوسف في حق نفسها ، على ما تقدم ، أو أراد قول كل واحدة قد ظلمت امرأة العزيز ، فكان ذلك مراودة منهن . " قلن حاش لله " أي معاذ الله . " ما علمنا عليه من سوء " أي زنى . " قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق " لما رأت إقرارهن ببراءة يوسف ، وخافت أن يشهدن عليها إن أنكرت أقرت هي أيضا ، وكان ذلك لطفا من الله بيوسف . و " حصحص الحق " أي تبين وظهر ، وأصله حصص ، فقيل : حصحص ، كما قال : كبكبوا في كببوا ، وكفكف في كفف ، قاله الزجاج وغيره . وأصل الحص استئصال الشيء ، يقال : حص شعره إذا استأصله جزا ، قال أبو القيس بن الأسلت :
قد حصَّت البيضةُ رأسي فما *** *** أطعمُ نوماً غيرَ تَهْجَاعِ{[9156]}
وسنة حصَّاء أي جرداء لا خير فيها ، قال جرير :
يأوي إليكم بِلاَ مَنٍّ ولا جَحَدٍ *** *** مَن ساقه السَّنَةُ الحَصَّاءُ والذيبُ
كأنه أراد أن يقول : والضبع ، وهي السنة المجدبة ، فوضع الذئب موضعه لأجل القافية ، فمعنى " حصحص الحق " أي انقطع عن الباطل ، بظهوره وثباته{[9157]} ، قال :
ألا مبلغٌ عني خِدَاشًا فإنه *** كذوبٌ إذا ما حصحص الحق ظالمُ
وقيل : هو مشتق من الحِصَّة ، فالمعنى : بانت حصة الحق من حصة الباطل . وقال مجاهد وقتادة : وأصله مأخوذ من قولهم ، حص شعره إذا استأصل قطعه ، ومنه الحصة{[9158]} من الأرض إذا قطعت منها . والحصحص بالكسر التراب والحجارة ، ذكره الجوهري . " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " وهذا القول منها - وإن لم يكن سأل عنه - إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف وكرامته ؛ لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه ، فجمع الله تعالى ليوسف لإظهار صدقه الشهادة والإقرار ، حتى لا يخامر نفسا ظن ، ولا يخالطها شك . وشددت النون في " خطبكن " و " راودتن " لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.