مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (51)

ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك ، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن : { ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه } وفيه وجهان : الأول : أن قوله : { إذ راودتن يوسف عن نفسه } وإن كانت صيغة الجمع ، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } والثاني : أن المراد منه خطاب الجماعة . ثم ههنا وجهان : الأول : أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها . والثاني : أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه ، وعند هذا السؤال { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن : { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } .

واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة ، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن يوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهرا عن جميع العيوب ، وههنا دقيقة ، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة البتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيما لجانبها وإخفاء للأمر عليها ، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل ، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر ، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة ، فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك ، فإني مقر بصدقها في دعواها ، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك .

المسألة الثانية : قال أهل اللغة : { حصحص الحق } معناه : وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم : حصحص البعير في بروكه ، إذا تمكن واستقر في الأرض . قال الزجاج : اشتقاقه في اللغة من الحصة ، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل .