التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله ، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة . فلما ابتدىء بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها .

ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء : { وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة إلى أن قال وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ سورة الإسراء : 50 ، 52 ] .

ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان ، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك ، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين .

ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك ، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد ، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة ( افعل ) فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به ، فأصل يقيموا الصلاة } ليقيموا ، فحذفت لام الأمر تخفيفاً .

وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده ، كما في هذه الآية وفي قوله { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } في سورة الإسراء ( 52 ) ، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا ، فحكي بالمعنى .

وعندي : أن منه قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون في سورة الحجر ( 3 ) ، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل . فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد ، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة . وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل { قل } ، كما في « مغني اللبيب » ووافقه ابن مالك في « شرح الكافية » . وقال بعضهم : جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب { قل } على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده . والتقدير : قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا . وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية ، وفاتهم نحو آية { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا .

وزيادة { مما رزقناهم } للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة .

و { سراً وعلانية } حالان من ضمير { ينفقوا } ، وهما مصدران . وقد تقدم عند قوله تعالى : { سراً وعلانية } في سورة البقرة ( 274 ) . والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية ، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة ، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل ، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال ، وإنما الأعمال بالنيات .

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } [ سورة التوبة : 79 ] الآية .

وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به ، ومن العلانية الإنفاق الواجب .

وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء ، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه .

وقوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } الخ متعلق بفعل { يقيموا الصلوات وينفقوا } ، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق . وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلاً للاستزادة منهما ، إذ لا بيع يومئذٍ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب . فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع .

ونظيره قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } في سورة البقرة ( 254 ) .

وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها ، بقرينة المقام ، وليس المراد نفي الخلة ، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين ، قال تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ سورة الزخرف : 67 ] . وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة .

وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل } لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة .

وقرأ الجمهور { لا بيع } بالرفع . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالبناء على الفتح . وهما وجهان في نفي النكرة بحرف { لا } .