السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا ، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى : { قل لعبادي } فوصفهم بأشرف أوصافهم ، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبباً لهم فيه ، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى : { الذين آمنوا } ، أي : أوجدوا هذا الوصف { يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم } فيه وجهان : أحدهما : يصح أن يكون جواباً بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا : أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا . والثاني : يصح أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه اللام ، أي : ليقيموا ليصح تعلق القول بهما ، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله :

محمد تفد نفسك كل نفس *** إذا ما خفت من شيء تبالا

أي تبالى به ، أي : تكثرت به لدلالة قل عليه : { سراً وعلانية } ، أي : ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية ، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع ، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة .

تنبيه : في انتصاب سرّاً وعلانية وجوه : أحدها : أن يكون على الحال ، أي : ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين . والثاني : على الظرف ، أي : وقت سر وعلانية . وثالثها : على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية . ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل : { من قبل أن يأتي يوم } ، أي : عظيم جدّاً ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها { لا بيع فيه } ، أي : فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو يفدي به نفسه { ولا خلال } ، أي : مخالة ، أي : صداقة تنفع في ذلك اليوم .

قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة ، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة : { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } [ البقرة ، 254 ] . فإن قيل : كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين } [ الزخرف ، 67 ] ؟ أجيب : بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس ، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى .