البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته ، وجعلهم له أنداداً ، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم ، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة .

ومعمول قل ، محذوف تقديره : أقيموا الصلاة يقيموا .

ويقيموا مجزوم على جواب الأمر ، وهذا قول : الأخفش ، والمازني .

ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا ، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين ، والمؤمنون حتى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله : قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى .

وهذا قريب مما قبله ، إلا أن في ما قبله معمول القول : أقيموا ، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة .

وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله : يقيموا ، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر :

محمد تفد نفسك كل نفس . . .

أنشده سيبويه إلا أنه قال : إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر .

وقال الزمخشري في هذا القول : وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل ، عوض منه .

ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز انتهى .

وذهب المبرد إلى أنّ التقدير : قل لهم أقيموا يقيموا ، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل .

وهو فاسد لوجهين : أحدهما : أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل ، أو في الفاعل ، أو فيهما .

فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك : قم يقم ، والتقدير على هذا الوجه : أن يقيموا يقيموا .

والوجه الثاني : أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً .

وقيل : التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية .

وقال الفراء : جواب الأمر معه شرط مقدر تقول : أطع الله يدخلك الجنة ، أي إن تطعه يدخلك الجنة .

ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر ، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط .

وقيل : هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر ، والمعنى : أقيموا ، قاله أبو علي فرقة .

ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر ، لبقي على إعرابه بالنون كقوله : { هل أدلكم على تجارة } ثم قال : { تؤمنون } والمعنى : آمنوا .

واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني : على حذف النون ، لأن المراد أقيموا ، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك : يا زيد ، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى ، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق ، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم ، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة .

قال ابن عطية : ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله : الله الذي خلق السموات والأرض انتهى .

وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام ، يخالفه ترتيب التركيب ، ويكون قوله : يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله ، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله ، ولا يترتب أن يكون جواباً ، لأن قوله : الله الذي خلق السموات والأرض ، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً .

واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي : كل صلاة فرض وتطوع ، وأن يراد بها الخمس ، وبذلك فسرها ابن عباس .

وفسر الإنفاق بزكاة الأموال .

وتقدم إعراب { سرا وعلانية } وشرحها في أواخر البقرة .

وقال أبو عبيدة : البيع هنا البذل ، والخلال المخالة ، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى .

ويعني بالبذل مقابل شيء .

وقال امرؤ القيس :

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى***ولست بمقلي الخلال ولا قال

وقال الأخفش : الخلال جمع خلة .

وتقدم الخلاف في قراءة { لا بيع فيه ولا خلال } بالفتح أو بالرفع في البقرة ، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال ؟ ( قلت ) : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها ، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله : وما لا حد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة ، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى .