التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (94)

لما حذّرهم من النّقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلاً فيهم ، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم ، أعاد الكرّة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد التصريح بالنهي عن ذلك ، وتأكيد التحذير ، وتفصيل الفساد في الدنيا ، وسوء العاقبة في الآخرة ، فكان قوله تعالى : { ولا تتخذوا } تصريحاً بالنهي ، وقوله تعالى : { تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم } تأكيداً لقوله قبله : { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } [ سورة النحل : 92 ] ، وكان تفريع قوله تعالى : { فتزل قدم } إلى قوله : { عن سبيل الله } تفصيلاً لما أجمل في معنى الدَخَل .

وقوله تعالى : { ولكم عذاب عظيم } المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة . وبهذا التّصدير وهذا التّفريع الناشىء عن جملة { ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم } فارقت هذه نظيرتَها السابقة بالتفصيل والزيادة فحقّ أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شأن الجملة المؤكدة أن لا تعطف .

والزّلل : تزلّق الرّجل وتنقّلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض . وتقدم عند قوله تعالى : { فأزّلهما الشيطان عنها } في سورة البقرة ( 36 ) .

وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرّض للضرّ ، لأنه يترتّب عليه السقوط أو الكسر ، كما أن ثبوت القدم تمكّن الرّجل من الأرض ، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير .

ولما كان المقصود تمثيل ما يجرّه نقض الأيْمان من الدخل شبّهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلّت به فصرع . فالمشبه بها حال رجل واحد ، ولذلك نكرت { قدم } وأفردت ، إذ ليس المقصود قدماً معيّنة ولا عدداً من الأقدام ، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر : أراكم تقدّمون رجلاً وتؤخّرون أخرى . تمثيلاً لحالهم بحال الشخص المتردّد في المشي إلى الشيء .

وزيادة { بعد ثبوتها } مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين ، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة .

والثبوت : مصدر ثبت كالثّبات ، وهو الرسوخ وعدم التنقّل ، وخصّ المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقّق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي ، وخصّوا الثبات الذي بالألف بالمعنى الحقيقي وهي تفرقة حسنة .

والذّوق : مستعار للإحساس القويّ كقوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } وتقدم في سورة العقود ( 95 ) .

والسّوء : ما يؤلم . والمراد به : ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم .

و { صددتم } هنا قاصر ، أي بكونكم معرضين عن سبيل الله . وتقدّم آنفاً . ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه ، أي على التمسّك بالإسلام .

فسبيل الله : هو دين الإسلام .

وقوله تعالى : { ولكم عذاب عظيم } هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدْر العهد .

وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة . وما ارتدّ أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق ، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى الله عليه وسلم .