التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (94)

{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون 91 ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا 1 تتخذون أيمانكم دخلا 2 بينكم أن تكون أمة هي أربى 3 من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون 92 ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون 93 ولاتتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم 94 ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون 95 ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 96 من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 97 [ 91-97 ] .

شرح الآية :

{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم . . . }

والآيات السبع التالية وما فيها من تلقينات

الخطاب في الآيات لمخاطبين سامعين ، وفي بعضها ما يدل على أن المقصودين هم المسلمون ، وقد تضمنت الأوامر والتنبيهات التالية :

1- يجب عليهم الوفاء بما عاهدوا الله عليه ، وأقسموا الأيمان باسمه على الوفاء ، لاسيما أنهم بأيمانهم قد جعلوا الله عليهم كفيلا .

2- وعليهم أن يذكروا دائما أن الله رقيب عليهم ، يعلم جميع ما يقولونه ويفعلونه .

ولقد روى الطبري في صدد الآية [ 91 ] روايتين ، أولاهما : أنها نزلت في الحلف الذي كان مشركو قريش تحالفوا عليه في الجاهلية ، فأمرهم الله عز وجل أن يوفوا به في الإسلام{[1275]} . وثانيتهما : أنها نزلت في جماعة بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام في مكة ، مهيبة بهم إلى عدم التراجع والنقض بحجة ضعف النبي وأصحابه وكثرة المشركين .

وروى الطبرسي في سياق الآيات [ 95-97 ] ، عن ابن عباس : " أن رجلا من حضر موت ، اسمه عبدان شكى للنبي صلى الله عليه وسلم شخصا اسمه امرؤ القيس بأنه أخذ أرضا له ، فلما فاتح النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، أنكر فطلب منه أن يحلف ، فقال عبدان : إنه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه ، فلما قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزلت : { ولا تشتروا بعهد الله } إلى آخر الآيتين . . . فقرأهما رسول الله ، فقال امرؤ القيس : أما ما عندي فينفد ، وهو صادق فيما يقول ، لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي ، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها ، فنزل فيه . { من عمل صالحا } الآية .

ومقتضى رواية الطبرسي أن تكون الآيات الثلاث مدنية ؛ لأن الحادث لا يمكن أن يكون حدث إلا في العهد المدني . ولم نطلع على رواية تؤيد ذلك ، فضلا عن أنه لا تفهم حكمة وضع آيات مدنية في سياق متصل يوافق كفار مكة . والآيات بعد معطوفة على ما قبلها ، ومنسجمة معها سبكا وموضوعا ، مما يسوغ التوقف في صحة الرواية . وكل ما يمكن أن تكون الآيات تليت في ظروف الحادث المروي ، فالتبس الأمر على الرواة . وروح الآيات ونصها يسوغان استبعاد رواية الطبري الأولى .

والآيات التي تجيء بعد هذه الآيات بقليل تجعل احتمال صحة رواية الطبري الثانية قويا ، على ما سوف نشرحه بعد .

على أننا ننبه أولا على أن الآية منسجمة مع سائر الآيات نظما وموضوعا بحيث يسوغ القول : إنها لم تنزل وحدها ، وإنما نزلت الآيات جميعا معا . وثانيا على أنه يلمح شيء من الصلة الموضوعية بين هذه الآيات والآية السابقة من حيث إنها احتوت مثلها ، تبيانا بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من أخلاق وأفعال . وقد تكون الآية السابقة نزلت هي الأخرى مع هذه الآيات لتوكيد القصد الذي تضمنته الرواية الثانية ، بالإضافة إلى المقاصد الأخرى التي شاءت حكمة التنزيل أن تنطوي في الآيات .

ومع خصوصية الآيات الزمنية ودلالتها على خطورة الموقف الذي نزلت في شأنه ، مما تضمنته الرواية الثانية التي رجحنا صحتها ، ومما أيدته الآيات التي تأتي بعد قليل ، فإنها فيما احتوته من أوامر وتنبيهات تعد من روائع المجموعات القرآنية في بابها ، وتنطوي على تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى ، على ما هو واضح من الشرح المتقدم .

وعبارة الآية [ 96 ] ، هي أسلوبية كما هو المتبادر بسبيل القول : إن ما يمكن أن يعود على ناقض عهد الله من عوض ومنفعة من الناس مهما عظم ، يبقى قليلا بالنسبة لما عند الله ، وليست بسبيل التحذير من بيع عهد الله بالثمن القليل . وهي على ضوء هذا التوضيح جليلة المدى في صدد حث المسلم على الثبات على العهد ، الذي يكون عاهد الله عليه ، حينما أمن به وحده ، وصدق برسالة رسوله ، وما قد يقتضيه ذلك من التضحية بأي نفع دنيوي ؛ لأن الباقي هو ما عند الله ، وأن ما عند الناس مهما عظم فهو إلى زوال .

والآية الأخيرة من الآيات جديرة كذلك بالتنويه بصورة خاصة ، حيث تضمنت أولا : وعد الله عز وجل بالحياة السعيدة والأجر العظيم لمن آمن وعمل صالحا من ذكر أو أنثى ، وثانيا : نصا صريحا باعتبار المرأة والرجل سواء في التكاليف ، ونتائجها في الدنيا والآخرة أيضا ، مما احتوت آيات عديدة سابقة ، إشارة إليه على ما نبهنا عليه سابقا ، ومما احتوت آيات كثيرة آتية أحكاما كثيرة فيه ، على ما سوف نشرحه بعد ، بحيث يصح أن يقال بجزم : إن ذلك من المبادئ القرآنية المحكمة .

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره عن أهل التأويل في مدى ( الحياة الطيبة ) ، منها أنها السعادة والقناعة واللبس الحلال والأكل الحلال في الدنيا ، ومنها أنها حياة الجنة الأخروية . ويتبادر لنا من الآية وشطرها الثاني ، أن المقصود من العبارة ، وهي الحياة الطيبة في الدنيا ، التي يمكن أن تكون السعادة والطمأنينة والرزق الحلال .

6- وعليهم – للمرة الثانية – ألا يتخذوا أيمانهم وعهودهم وسيلة خداع وتضليل . ففي ذلك تورط وسقوط بعد الطمأنينة والوثوق ، وفيه صد عن طريق الله حيث يجعل الناس لا يثقون في أيمان بعضهم لبعضهم باسم الله .


[1275]:المتبادر أن المقصود بهذا الحلف هو الحلف الذي عرف بحلف الفضول والذي انعقد بين بطون قريش لمنع المظالم في حرم الله، وقد شهده النبي عليه السلام، وروي عنه في حديث جاء فيه: ( ما أحب أن لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النعم وأني أغدر به ولو دعيت به لأجبت ) انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 110-111.