التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى . وجاءت الجملة على سبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قُدّم متعلِّق { أخَذْنا ميثاقهم } وفيه اسْم ظاهر ، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلِّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه الظاهر وبضميره ، فالتقدير : وأخذنا ، من الذين قالوا : إنّا نصارى ، ميثاقهم ، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر . وقيل : ضمير { ميثاقهم } عائد إلى اليهود ، والإضافة على معنى التشبيه ، أي من النصارى أخذنا ميثاقَ اليهود ، أي مثلَه ، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به . وهذا بعيد ، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى .

وعبّر عن النصارى ب { الذين قالوا إنّا نصارى } هُنا وفي قوله الآتي : { ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] تسجيلاً عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله ، وهو أن يكون أتباعه أنصاراً لِما يأمر به الله ، { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاريَ إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله } [ الصف : 14 ] . ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدّين بعْد عيسى من أتباعه ، مثل بُولس وبَطرس وغيرهما من دعاة الهدى ؛ وأعظم من ذلك كلّه أن ينصروا النبيءَ المبشَّر به في التَّوراة والإنجيل الّذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلِّص النّاس من الضلال { وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمِنُنّ به ولتَنْصُرُنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية . فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصّة النّصارى ، فهذا اللقب ، وهو النصارى ، حجّة عليهم قائمة بهم متلبّسة بجماعتهم كلّها .

ويفيد لفظ { قالوا } بطريق التعريض الكنائي أنّ هذا القول غير موفًّى به وأنّه يجب أن يوفّى به . هذا إذا كان النصارى جمعاً لنَاصرِيّ أو نصْرانِي على معنى النسبة إلى النّصر مبالغة ، كقولهم : شَعْرَاني ، ولِحيَاني ، أي النّاصر الشديد النصر ؛ فإن كان النّصارى اسم جمع ناصريّ ، بمعنى المنسوب إلى الناصري ، والناصري عيسى ، لأنّه ظهر من مدينة الناصرة . فالناصري صفة عرف بها المسيح عليه السّلام في كتب اليهود لأنّه ظهر بدعوة الرسالة من بلد النّاصرة في فلسطين ؛ فلذلك كان معنى النسبة إليه النسبة إلى طريقته وشرعه ؛ فكلّ من حاد عن شرعه لم يكن حقيقاً بالنسبة إليه إلاّ بدعوى كاذبة ، فلذلك قال : { قالوا إنَّا نصارى } . وقيل : إنّ النصارى جمع نصراني ، منسوب إلى النصْر : كما قالوا : شعراني ، ولِحياني ، لأنّهم قالوا : نحن أنصار الله . وعليه فمعنى { قالوا : إنّا نصارى } أنّهم زعموا ذلك بقولهم ولم يؤيّدوه بفعلهم .

وقد أخذ الله على النصارى ميثاقاً على لسان المسيح عليه السّلام . وبعضه مذكور في مواضع من الأناجيل .

وقوله : { فأغرينا بينهم العداوة } حقيقة الإغراء حَثّ أحدٍ على فعل وتحسينُه إليه حتّى لا يتوانى في تحصيله ؛ فاستعير الإغراء لتكوين ملازمة العداوة والبغضاء في نفوسهم ، أي لزومهما لهم فيما بينهم ، شُبّه تكوين العداوة والبغضاء مع استمرارهما فيهم بإغراء أحد أحداً بعمل يعمل تشبيه معقول بمحسوس . ولمّا دلّ الظرف ، وهو { بينَهم } ، على أنّهما أغْرِيَتَا بهم استُغني عن ذكر متعلّق { أغرينا } . وتقدير الكلام : فأغرينا العداوة والبغضاء بِهم كائنتين بينهم . ويُشبه أن يكون العدول على تعدية « أغرينا » بحرف الجرّ إلى تعليقه بالظرف قرينة أو تجريداً لبيان أنّ المراد ب { أغرينا } ألْقينا .

وما وقع في « الكشاف » من تفسير { أغرينا } بمعنى ألصقنا تطوّح عن المقصود إلى رائحة الاشتقاق من الغِرَاءِ ، وهو الدهن الذي يُلْصق الخشب به ، وقد تنوسي هذا المعنى في الاستعمال . والعداوة والضمير المجرور بإضافة بينَ إليه يعود إلى النصارى لتنتسق الضّمائر .

والعداوَة والبغضاءُ اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة ، فهما ضدّان للمحبّة .

وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن ، في هذه الآية وفي الآيتين بعدها في هذه السورة وفي آية سورة الممتحنة ، أنّهما ليسا من الأسماء المترادفة ؛ لأنّ التزام العطف بهذا الترتيب بُبعِّد أن يكون لمجرّد التّأكيد ، فليس عطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف المرادف لمجرّد التّأكيد ، كقوله عَدِي :

وألْفَى قَولهَا كَذِبا وَمَيْنا

وقد ترك علماء اللّغة بيان التفرقة بين العداوة والبغضاء ، وتابعهم المفسّرون على ذلك ؛ فلا تجد من تصدّى للفرق بينهما سوى الشيخ ابن عرفة التّونسي ، فقال في « تفسيره » « العداوة أعمّ من البغضاء لأنّ العداوة سبب في البغضاء ؛ فقد يتعادى الأخ مع أخيه ولا يتمادى على ذلك حتّى تنشأ عنه المباغضة ، وقد يتمادى على ذلك » اهـ .

ووقع لأبي البقاء الكفوي في كتاب « الكليّات » أنّه قال : « العداوة أخصّ من البغضاء لأنّ كلّ عدوّ مبغض ، وقد يُبغِض من ليس بعدوّ » . وهو يخالف كلام ابن عرفة . وفي تعليليْهما مصادرة واضحة ، فإن كانت العداوة أعمّ من البغضاء زادتْ فائدةُ العطف لأنّه يصير في معنى الاحتراس ، وإن كانت العداوة أخصّ من البغضاء لم يكن العطف إلاّ للتّأكيد ، لأنّ التأكيد يحصل بذكر لفظ يدلّ على بعْضٍ مُطلقٍ من معنى الموكَّذ ، فيتقرّر المعنى ولو بوجه أعمّ أو أخصّ ، وذلك يحصل به معنى التّأكيد .

وعندي : أنّ كلا الوجهين غير ظاهر ، والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين ؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها : معاملةٌ بجفاء ، أو قطيعة ، أو إضرار ، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد ، فإنّ مشتقّات مادة ( ع د و ) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام . وأمّا البغضاء فهي شدّة البغض ، وليس في مادة ( ب غ ض ) إلاّ معنَى جنس الكراهية فلا سبيل إلى معرفة اشتقاق لفظها من مادتها . نعم يمكن أن يرجع فيه إلى طريقة القلب ، وهو من علامات الاشتقاق ، فإنّ مقلوب بَغِض يكون غَضِب لا غير ، فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بَعَدوْ ، فهي مضمرة في النفس .

فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع ، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخر . فوقع في هذا النظم إيجاز بديع ، لأنّه يرجع إلى الاعتماد على علم المخاطبين بعدم استقامة اجتماع المعنيين في موصوف واحد .

ومن اللّطائف ما ذكره ابن هشام ، في شرح قصيدة كعب بن زهير عند قول كعب :

لكنَّها خُلّة قد سِيط من دَمها *** فَجْع وولْع وإخلاف وتبديل

أنّ الزمخشري قال : إنّه رأى نفسه في النّوم يقول : العداوة مشتقّة من عُدوة الوادي ، أي جانبه ، لأنّ المتعاديين يكون أحدهما مفارقاً للآخر فكأنّ كلّ واحد منهما على عدوة اه . فيكون مشتقّاً من الاسم الجامد وهو بعيد .

وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم كان عقاباً في الدنيا لقوله : { إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون } جزاء على نكثهم العهد . وأسباب العداوة والبغضاء شدّة الاختلاف : فتكون من اختلافهم في نحَل الدّين بين يعاقبة ، وملكانية ، ونسطورية ، وهراتقة ( بروتستانت ) ؛ وتكون من التحاسد على السلطان ومتاع الدّنيا ، كما كان بين ملوك النّصرانية ، وبينهم وبين رؤساء ديانتهم .

فإن قيل : كيف أغريت بينهم العداوة وهم لم يزالوا إلْبا على المسلمين ؟ فجوابه : أنّ العداوة ثابتة بينهم في الدين بانقسامهم فِرقاً ، كما قدّمناه في سورة النساء ( 171 ) عند قوله تعالى : { وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه } ، وذلك الانقسام يجرّ إليهم العداوة وخذْل بعضهم بعضاً . ثمّ إنّ دولهم كانت منقسمة ومتحاربة ، ولم تزل كذلك ، وإنّما تألّبوا في الحروب الصّليبية على المسلمين ثمّ لم يلبثوا أن تخاذلوا وتحاربوا ، ولا يزال الأمر بينهم كذلك إلى الآن . وكم ضاعت مساعي الساعين في جمعهم على كلمة واحدة وتأليف اتّحاد بينهم ، وكان اختلافهم لطفاً بالمسلمين في مختلف عصور التّاريخ الإسلامي ، على أنّ اتّفاقهم على أمّة أخرى لا ينافي تمكُّن العداوة فيما بينهم ، وكفى بذلك عقاباً لهم على نسيانهم ما ذكّروا به .

وقيل : الضمير عائد على الفريقين ، أي بين اليهود والنصارى ، ولا إشكال في تجسّم العداوة بين الملّتين .

وقوله : { وسوف ينبّئُهم الله } تهديد لأنّ المراد بالإنباء إنباء المؤاخذة بصنيعهم ، كقوله : { فسوف تعلمون } [ الأنعام : 135 ] . وهذا يحتمل أن يحصل في الآخرة فالإنباء على حقيقته ، ويحتمل أن يحصل في الدنيا ، فالأنباء مجاز في تقدير الله لهم حوادث يعرفون بها سوء صنيعتهم .